العدد 2200
الخميس 23 أكتوبر 2014
banner
اللهم اجعله خيراً! غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 23 أكتوبر 2014

رأيت في ما يرى النائم أجواءً خريفية تهب على البحرين، والناس في حبور بعد أن انقشع فصل الصيف الحارق للأجساد، الخارق للأدمغة، وبدأت جلودهم تسكن، وصاروا يفترشون المقاهي كما يفعلون في الأوقات الرطيبة، وإذا بهم يتحلّقون رفاقاً رفاقاً، عن اليمين وعن الشمال عزين، وأسمع في لهجاتهم هذه الاختلافات الحلوة بين المناطق، “مدينيّها وقروّيها”، يناقشون أوضاعهم الحياتية والسياسية، وإذا بأحدهم يأخذه الحماس، فيهتف بأعلى صوته مؤيداً جمعية ينتمي إليها، ويسوق حججاً في أهمية المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فيسابقه شخص بدا من نبراته أنه ينتمي إلى فريق المقاطعة وقد رأى ما رأى من موجبات المقاطعة، وإذا بالآخرين يتضاحكون ويهوّنون الأمور على الطرفين، ويقترح واحدٌ من الشباب أن يشربا الشاي قبل أن يبرد فبعد قليل ستبدأ مباراة كبرى منتظرة، وقبل أن أشيح عن هذا الجمع بناظري، إذا بالمبشّر بالمشاركة يهمس في أذن الداعي إلى المقاطعة، ويغرقان في ضحكات مكتومة.
واصلت المسير في طريق ممهدٍ رُصف جانباه بعناية ملفتة، وقد خلا من الأوساخ والقاذورات وآثار بصق “البان” في الزاوية المستقيمة بين الشارع والحائط، لأجد أربعة من الرجال قد تخصّروا رافعين رؤوسهم يقرأون البرامج الانتخابية لثلاثة مترشحين مختلفي التوجهات، أحدهم كان يبحث عن القمامة ليودع فيها قشور حب الشمسي حتى يقول لأصحابه إن المترشح في أقصى اليمين خاله، ولكن البرنامج الانتخابي للمترشحين الآخرين أكثر تماسكاً وهو في حيرة لمن سيعطي صوته منهما! الذي خطه الشيب من الواقفين الأربعة أشار بهدوء إلى أنه ييل إلى إعادة انتخاب خال المتحدث الأول لأنه ذو خبرة وله وقفات رقابية مشهودة في المجلس السابق، حيث قاد ائتلافاً من النواب لمحاسبة المتسيبين في المال العام الذين يرد ذكرهم سنوياً في ديوان الرقابة. الآخران لم يعلقا اذ تقسّم انتباههما بين القراءة والحوار الدائر. عندما ردّ الأول على ما قاله صاحبه لم أستطع أن أتبيّن كلامه لمرور عربة كبيرة ركبت عليها مكبرات الصوت تدعو إلى احتشاد جماهيري عام من أجل زراعة نخيل وأشجار اللوز والباباي والليمون والبمبر، وأنواع أخرى من الأشجار البحرينية التي لم أتبيّنها، أو نسيتها الآن، رددت المايكروفونات شعار “بحرين خضراء يستظل تحتها الجميع”، وفي الحال انبجست في أنفي رائحة المزارع القديمة أيام الصيف، حيث الأشجار البحرينية، ليست في غاية اللذة والحلاوة كما نظيراتها من الثمار الآتية من أقاصي الأرض، ولكن سبحان الله.. لها طعم لا يفارق ذاكرة اللسان وخلايا التذوق فيه، أقل لذة، ولكنها أقرب إلى القلب، فلا توجد للحب قواعد وشروط ومعادلات.. شعرت بكلمات الشعار كلمة كلمة، ووقفت عند “الجميع” مبتسماً مردداً “أخيراً؟!”.
عندما قطعت السيارة الطريق انكشف المشهد عن مركز لتسجيل أسماء المترشحين لخوض الانتخابات، نظرت إلى ساعة يدي فإذا الوقت قد أزف لإغلاق أبواب قبول أوراق المترشحين، فحثثت السير لأول مرة لأرى ما الذي يجري في الداخل، فإذا بالمركز يغص بالراغبين في ترشيح أنفسهم، يصطفون بهدوء وصبر، والإجراءات تسير بشكل سلس، بيد أن الأعداد كثيرة، ويحتاج فحص الأوراق بعض الوقت. ولأنني أحلم، رأيتني أجلس على كرسي إلى إحدى طاولات التسجيل أسأل المترشحة: “أنت سيدة أعمال معروفة، لك محلات تجارية وعقارات... ما الذي يدفعك للترشح وأنت تعلمين أن العمل البرلماني ليس اجتماع يوم واحد، وإنما فيه لجان وتحضيرات... الخ”، نظرت إليّ مستغربة سؤالي، بل قل مستنكرة إياه: “أليس من واجبي أن أردّ بعضاً من أفضال وطني عليّ؟! أن أوظف خبرتي في تعديل الكثير من الأوضاع التي ظللت أنتقدها وأنا في خارج دائرة اتخاذ القرار؟!”، قبل أن أسألها عما إذا كانت تجيد القراءة والكتابة، مدّت إليّ بأوراقها، فإذا هي قد نالت شهادات أكاديمية متعددة، وشهادات خبرة متنوعة، وسيرة ذاتية زاخرة، قلت لها: “سيفتقدك القطاع التجاري”، ردّت: “إلى حين أيها الطيب.. إنها مرحلة أؤدي فيها دوراً، وأعود تالياً وأنا فخورة بما فعلت”، رفعت الختم وهويت على أوراقها “مقبول”، رفعت رأسي لأرى الطابور الممتد وراءها، المتنوع الوجوه والسحنات البحرينية المعروفة، التي تكاد تقول لأحدهم: “أنا أعرفك... هل تذكّرني أين رأينا بعضنا بعضاً؟!”، فوجدتهم جميعاً من الناشطين، والنابهين، والمقدَّمين في أعمالهم ومجتمعاتهم، وذوي الخبرات الطويلة والعميقة، والتعليم الجيّد، والذين يشهد لهم من حولهم بالقوة في الطرح، والأمانة في كل ما يتولونه، قلت في نفسي: “وأي أربعين سيختار الناس من الأربعمئة الذين أراهم أمامي؟! ليس فيهم أحد أقلّ من أحد، نساؤهم ورجالهم.. ربت القاضي على كتفي وقد كان واقفاً وكأنه يقول لي شكراً لأنني حللت محله فترة غيابه القصيرة، مشيراً – وكأنه يقرأ أفكاري - إلى أن من سيفوز سيتخذ من هؤلاء مساعدين ومستشارين ورافدين لعمله، وقد تعاهدوا على هذا الأمر في ميثاق شرف غير مكتوب. تساءلت: “حتى وإن لم يكونوا من أهل دائرته؟”، دُهش صاحب الفضيلة من هذا الطرح وقال: “من أي كوكب أنت؟ أيُّ دائرة تتحدث عنها؟ لقد انتهينا من هذا الكلام منذ زمن طويل جداً... نحن نتحدث عن البحرين بأسرها، فالنائب يمثل جميع الناس، جميع المناطق”. هنا تذكرت أنني لم أسمع منذ زمن طويل نغمة “ماذا فعل لنا هذا النائب؟!”، بمعنى ما الذي أفاد به المنطقة وأهلها حتى يعاد انتخابه من جديد؟
مررت بين صفوف المترشحين راجياً لهم التوفيق، صافحت بعضهم، خرجت من المركز فإذا الجو بات ألطف من ذي قبل، استقبلت نسمات عليلة، أغمضتُ عينيّ مستقبلاً منها ما تسعه رئتاي، زفرت ما تجمع في الصدر، وفتحت عينيّ من جديد مبتسماً، إذ بالحشود قد بدأت غرس أشجار يستظل تحتها جميع البحرينيين.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .