العدد 1679
الإثنين 20 مايو 2013
banner
في مديح البحر الذي كان غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 20 مايو 2013

تتكرر قصتنا مع البحر، نراه ينقص من أعيننا شبراً شبرا... قيل إن بحرنا مملوك ومقطّع ومباع أساساً. هو ليس بحرنا، سنراه عما قريب استحال أرضاً قاحلة كالحة، تحاول استنبات المدن ويستحيل لها ذلك، فلقد بلغت اللعنة نهايتها. يأخذون منا ملحنا ويعدوننا بقليل من السكّر. هل يحق لأحد اليوم أن يصطاد سمكاً في بحر ليس له؟ أليس حراماً أن توقف قاربك المتهالك على أرض ليست لك؟ أن تقتلع محارات لعل تلتمع فيها «دانة» من قعر لم يعد ملكاً مشاعاً كما كان في السابق؟ أن تشهد هذا التسابق على رئتيك المترعتين بالسخام ليسدّوا عنها منافذ الله، ويبعدونك مجدداً عن صفاء نفسك مقابل ألا ترى زرقة المتهادي أو خضرته، حتى لا تلفح أبناءك أمواجه ولا تنجرح أرجلهم بصخوره.. حتى لا يحق لأحد أن يغمر همّه فيه وكأن المطلوب أن يبلع كلٌّ منا همَّه.. حتى لا تكتحل عيناك يومياً برؤية من اشتققت منه وجودك وهويّتك وانتماءك، وصرت تسمّى به، ليس واحداً فرداً، بل اثنان، بحران من يضطربان في داخلك وأمام ناظريك، ولكنهما اليوم يغوران في البعيد، أحدهما يرتحل عنك بفعل الدافنات الخاليات من الرحمة، المكتسيات بالصدأ، المتعالية منها رائحة البحر الحزين إذ يتوسلها أن تكفّ عن تقليبه رأساً على عقب، وتجعل سافله عاليه، يرتمي على ذراعي الوحوش المعدنية، يحاول عبثاً أن يقنعها بأن بسطاء الناس وعامّتهم، الكالحون منهم والكادحون، الاعتياديون الذين لا ملامح خاصة بهم، لا جدران يتندون إليها لا ألقاب تفرغ الهواء من محتواه إن نُطقت... الناس الذين تراهم في كل مكان ولا تكاد تذكر أحداً منهم، والذين تراهم إلا بالقلب فتذكرهم جميعاً، الذين لوّحهم البحر وأكسبتهم شمسه هذه السمرة العذبة في الأعماق... كل هؤلاء يحتاجونه حاجة الطفل إلى جدته التي يظن أنها لن تغادر الدنيا أبداً.. بينما الوحوش المأمورة تواصل تمزيق أحشائه، وتحفر للبحر قبره، تردمه، تدفنه، تواريه الثرى، تعالج صيحاته وزبده المتناثر وهو يقاتل عبثاً. ولا يهدأ النهم أبداً، فلا يزال في الدنيا بحر، ولا تزال وعود دراسات ذوي البدلات الأنيقة تغري بأن الأموال قادمة، فقط ادفنوه هذا الكنز الذي لا يمسّوه في بلدانهم، ولا تسمح لهم قوانينهم بالتعدي عليه، وتجرّم من يمس ملكاً عاماً، وهبة من الله وهبها للناس جميعا، وللبلد بأكمله، فيجدوا فينا هذه الرخاوة في القوانين، وارتجاف المشرّعين، وتراخي المدافعين، وقصر أنفاس من نذروا أنفسهم لحماية مكوناتنا، وتقازم كل القامات، وتهاوي كل السدود بأركانها النخرة إزاء بنات آوى بأنيابها اللامعة وشدوقها التي تسيل لعاباً لزجاً وألسنتها الحمراء المتدلية من أفواهها وهي ترى البحر صيداً وطريدة، تحوم حوله قليلا... تتدارك أنفاسها سريعاً... لا يمكنها أن تقصر نفسها، لا يمكنها أن توقف جشعها، لا يمكنها إلا أن تنقض على فريستها، هكذا فطرها الله، وهي لا يمكنها أن تهذب هذه الفطرة... والله لقد حاولتْ ذات يوم، ولكنها فشلت، كما يفشل مدمن بعد إقلاعه بفترة قصيرة، فيعود إلى معاقرة الخمر، أو تقبيل لفافة تبغ، أو غرز حقنة مخدر في وريده بكمية أسخى من السابق لتعويض ما فاته... هكذا بنات آوى.. قطعان الضباع الذين حاموا حول الحمى متوهّما منعته وقوته وقدرته على التماسك حتى النهاية، ولكنها ما لبثت أن وجدت لها ثغرات فمزقت أحشاءنا بالمزيد من القسوة في التكالب على ملحنا الأبدي. ضربت في البناء الذي للتو بنيناه معا، وتعاونا على نقل أحجاره وطينه على أكتافنا، ولكن الطين لم يجفّ بعد، والبناء لم يتماسك بعد... وإذا بالضاريات الضاربات يدكّنّ أركانه، فيتهاوى على رؤوس الجميع... إلا قطيع الضباع... فعجباً لهذا الإنسان الذي لا يتعلم، ولا يريد أن يعتبر! أليست له عينان فيبصر بهما؟ ألا يرى كل هذه المشاريع التي توقفت، والأبراج التي لم تكتمل، طبقات الأسمنت التي انتصفت من دون أن تتم، المشاريع التي قيل إنها ستكون مفتوحة للعامة، والسفن الخشبية ستمخرها جيئة ورواحاً، وعلى الضفتين ستصطف المقاهي والمطاعم المستوردة والمكررة.. والناس، العامة، العموم، العوام.. سيّان لا يهم، فهم لا يعنون شيئاً، سيتمتعون بمنظر «درادير» البحر بين البنايات الشامخة التي لا يمكنهم أن يطأوها، وحتى هذه الممرات المائية على ضيقها المنتظر، وعطنها المحتمل، أين هي؟ ألم تبنَ على أحلام الثراء والأعمال التي ستنتعش؟ ألم يكن البحر قاعها وقاعدتها؟ ها قد خسرنا البحر ولم نربح هذه المشاريع التي تمدّ ألسنتها لنا ليل نهار تذكرنا بتعاستنا وبؤسنا وتهافتنا على الرديء من الاستثمارات، بينما من اقترحوها ودغدغوا شهوة المال في أجواف منفذيها، هم اليوم يسترخون على شواطئ مفروشة بالرمل الناعم وقد أثروا على حساب رمال تذروها الرياح في عيوننا كلما ألهبتنا الشمس بسياط نيرانها الأبدية عقاباً على ما نفرّط به، ونجبن عن قول ما سنندم عليه غداً.
ها قد انتهيت للتو من كتابة هذه المقامة في مدح البحر وقدح رادميه وبائعيه. ها قد انتهت للتو خرائط جديدة تمسح البحر لترى أين يمكنها أن توجعنا من جديد، تدفن تاريخنا وتراثنا، وتضعنا في وجه المهب، وتسدل حواجز إسمنتية تغرّبنا أكثر عن ذواتنا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية