العدد 2552
السبت 10 أكتوبر 2015
banner
السبت 10 أكتوبر 2015

عشت وترعرعت في قرية نائية غرب الفرات لا يجمعها مع العالم الكبير إلا صندوق خشبي أصبح وجوده اليوم في البيوت والمقاهي نادرا هو “الراديو”، وكنا نطلق عليه “المذياع” كما شاء أن يدعوه مجمع اللغة العربية ولم يلق لدى الناس القبول رغم تثبيته في معاجم اللغة. كان هناك رجال تجاوزوا الستين من العمر يغشون مجالس المقهى لهم عالمهم الخاص، كثيرا ما يتحدثون بينهم في السياسة من منظور لم يكن يعجبنا باعتبارهم دقة قديمة، ومع ذلك كنا نختلس السمع إليهم لنتندر ببعض ما تفيض به قرائحهم من عبارات معجمهم الخاص، وكانوا لا يثقون من عالم السياسة إلا بما يراه الانجليز الذين يطلقون عليهم في مصطلحهم الخاص “أبو ناجي” وحين تشتبك عليهم الأمور ويستعصي حلها يقولون السياسة لا دين لها ولا مذهب. ولو سألتني اليوم عن المفاجأة التي فجرها الروس في دنيا السياسة بتدخلهم الصريح وقصفهم مواقع المعارضة السورية المعتدلة لصالح الجزار الأسد بحجة وذريعة داعش، وموقف أميركا من هذا التدخل السافر لقلت لك “السياسة لا دين لها ولا مذهب”، فهناك الكثير مما يقال عن هذه المستجدات، لكن الدليل المادي لا تمتلكه إلا ثلة ممن خطط ودبر، فهم ينامون ملء جفونهم والناس تختصم، كما يقول المتنبي:
أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي 
وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَــم
أَنـامُ مـلءَ جفوني عَـنْ شوارِدِهـا 
ويسهـرُ الخلـقُ جَرّاهـا وَيَخْـتصِـمُ
وجـاهِـلٍ مَــدَّهُ فـي جَهْلِـهِ ضَحِكـي
 حتــى أتـتــهُ يَــدٌ فَــرّاســةٌ وَفـَـــمُ
إذا  رأيــت نيــوب اللـّيـــثِ بــارزةً
  فــلا تظـنَـنَ أَنَّ اللـّيـــثَ يبْتسـِـــمُ
لقد عاشت المنطقة العربية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم حروبا داخلية وخارجية كثيرة، ولا أذكر أن الاتحاد السوفيتي أو روسيا تدخلت واستخدمت سلاحها مباشرة في المنطقة لا في أيام قوتها ولا في أيام ضعفها، ومشكلات المنطقة ليست جديدة فالمشكلة السورية قائمة منذ سنوات، سالت فيها دماء وسقط ضحايا، وهاجر من هاجر  ونزح من نزح، وقبلها المشكلة العراقية واللبنانية والجزائرية وبعدها الليبية واليمنية ولم يتدخل الدب الروسي، فما الذي تغير وأثار حفيظته وحفزه ليطلق عنان طائراته تقصف بلا رحمة، وبتدخل روسيا السافر يبرهن الكبار أنهم لا يتورعون عن التدخل سياسيا وعسكريا في شؤون الصغار حينما تقتضي مصالحهم، ولا يأبهون بالقانون الدولي ولا بقرارات مجلس الأمن، روسيا دخلت براغ 1968، واحتلت أفغانستان، 1979 وفي أوكرانيا والبلقان 2014، واحتلت بريطانيا جزر فوكلاند 1982،  وتدخل حلف الناتو بكسوفو والبوسنة، وحلف الأطلسي في يوغسلافيا، واحتلت أميركا وحلفاؤها العراق 2003، وتدخل الغرب في ليبيا، وتدخلت فرنسا في مالي 2013، ولم يبقوا شيئا لمجلس الأمن والقانون الدولي. بالمعايير القانونية السليمة والصحيحة.
ومن أيام قلائل وبصورة مفاجئة تواردت أخبار عن شحن أسلحة روسية إلى سوريا بجسر جوي، وخلال أيام معدودة باشرت طائراتها شن غارات لدعم نظام الأسد المتهالك وقصف الفصائل المعارضة لنظامه على الرغم من الأعمال الإجرامية التي ارتكبها بحق شعبه ومقتل مئات الآلاف على يده بطرق وحشية بشعة وتهجير الملايين وتدمير البلد وإحراقها، وأمام الصدمة تراجعت أميركا عن مواقفها المتصلبة باستحياء وخجل إلى مواقف تبدو فيها المرونة، وأسرعت تركيا اشد الدول تصلبا تجاه النظام السوري إلى تخفيف حدة اعتراضاتها، فما الذي جرى ويجري وطرأ على السياسة الدولية بقدرة قادر؟ وما الدافع لكل هذه التحولات الدرامية السريعة في المنطقة، فهل أصبحنا حقل تجارب لأسلحة الدول الصناعية أم مكب نفايات يتخلصون فيها من أسلحتهم المتقادمة؟ ربما أصبحت لروسيا ديون طائلة على سوريا تخشى ذهابها بذهاب الأسد، أم تراها محاولة لإيقاف تطلعات قطر إلى تصدير نفطها وغازها إلى أوروبا، ورغم عدم وجود دليل مادي على التنسيق بين الدول الكبرى، تؤكد المعطيات أن ثمة مساومات وتفاهمات خفية بين القطبين الأعظم روسيا وأميركا، ولاسيما في ظل التنسيق الجاري بينهما لتلافي أي احتكاك بين الطرفين في الضربات الجوية والله أعلم!
والسؤال الملح لماذا تغيرت المعادلة على الأرض بهذه السرعة الفائقة؟ هل هو صراع حقيقي على النفوذ بين الشرق والغرب؟ أم تبادل ادوار يستند على سياسات مرسومة ومتفق عليها سلفا؟ والقصد إنهاك المنطقة تماما تمهيدا لتجزئة سوريا وتقاسمها مناطق نفوذ لحفظ أمن إسرائيل ومصالح إيران إثر الاتفاق النووي، أم لإيجاد توازن تسترجع فيه روسيا جزءا من هيبتها وهيمنتها في المنطقة وتعود لتمارس دورها في رسم السياسة العربية الغائبة؟ ولمن ستكون الغلبة؟ ولماذا يقتصر التدخل عند القصف الجوي حصرا دون وجود مشاة على الأرض، ثم أليس لروسيا الحق في التدخل بعد فشل أميركا في فرض حل حاسم وإيجابي كل هذه الفترة الطويلة، وماذا ستفعل أميركا إذا استمرت روسيا بقصف المعارضة السورية التي تدعمها؟ كل ما يقال من تخمينات وتطمينات تظل مجرد افتراضات تخطئ وتصيب وعند جهينة وحدها الخبر اليقين. ولمن يتساءل لماذا كل هذا الغموض وهذه الإجراءات الملتبسة والمُلبسة في السياسة الدولية نقول لك لأن السياسة لا مصداقية فيها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .