+A
A-

قراءة في زيارة جلالة الملك إلى موسكو

المنامة - بنا: تجيء زيارة عاهل البلاد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة لروسيا الاتحادية اليوم لتؤكد أمور جوهرية عدة، منها: أن هناك مساعي حثيثة وجهودا متواصلة من جانب قادة ومسؤولي الدولتين لتوطيد علاقاتهما الثنائية، خصوصا في ظل التحولات التي يشهدها النظام العالمي، وتطورات الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط عموما، وفي غرب القارة الآسيوية خصوصا.
وتعكس الزيارة المرتقبة إقرارا من قبل الدولتين بثقلهما في محيطيهما الإقليمي، ومكانة قيادتيهما ودورهما المحوري في حفظ أمن واستقرار المنطقة والعالم؛ وذلك بالنظر لما تملكه كل من البحرين وروسيا من علاقات واسعة وجيدة ومثمرة مع جيرانهما ووسط تحالفاتهما مع المنظمات العالمية، وتفاعلاتهما ووضعيتهما الإستراتيجية كركنين من أركان النسق الدولي القائم.
وتبدي الدولتان، مع إدراك قادتهما ورؤيتهما الإستراتيجية، حرصا كبيرا لتطوير علاقاتهما لتشمل مختلف المجالات، إذ تنظر روسيا للبحرين باعتبارها نافذة جيدة على سوق واسعة تمثل منطقة جذب خاص لدول العالم أجمع، وليس لموسكو فحسب، ناهيك بالطبع عما تمثله البحرين ذاتها من بيئة أعمال جاذبة للتدفقات والفرص الاستثمارية الروسية، خصوصا بما تملكه من بنية أساسية وإغراءات تنظيمية وحوافز تشجيعية تقدمها.
الأمر ذاته بالنسبة للبحرين التي ترى في روسيا قطبا دوليا محوريا في النظام العالمي، وبمقدوره حلحلة الكثير من الملفات التي تُعنى بها المملكة وتهتم، خصوصا في الشرق الأوسط والخليج، كما تواجه تجربة شبيهة لما تواجهه المملكة من محاولات لبث بذور الفوضى والإرهاب الذي لم يعد قاصرا على الدولتين وحدهما، وإنما شمل العالم أجمع، ويحتم على الطرفين العمل معا للتصدي له.
من هنا، يمكن النظر للزيارة المرتقبة اليوم باعتبارها نتاجا لرؤية مشتركة بأهمية علاقاتهما، وتتويجا للخطوات والتحركات التي يقوم بها قادة الدولتين منذ سنوات لتعزيز أوجه التعاون والتفاعل الثنائي، والتي بدأت على مستوى كبار المسؤولين منذ ديسمبر بالعام 2008، وتحديدا عندما قام العاهل بأول زيارة لموسكو، وألقى خلالها كلمة مثلت خطة عمل رئيسة ومستقبلية لتطوير مسار العلاقات المشتركة.
وتبرز هنا أهمية الإشارة لبعض مفردات وقوام الكلمة الملكية السامية، والتي احتوت على مضامين رئيسة عدة، منها: التقدير البحريني للدور الروسي الريادي والعالمي، وبيان مدى حرصه على ترسيخ الأمن والسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، والفرص الواسعة لتطوير وتفعيل العلاقات الثنائية بما يشمل مختلف القطاعات والمجالات، لاسيما ناحية التعاون الاقتصادي والمصرفي والتشاور السياسي وتوسعة مجالات استقطاب الاستثمار في كلا البلدين.
والمعروف هنا، أن المباحثات التي أجريت إبان هذه الزيارة المذكورة قد أسفرت عن الاتفاق على توقيع مذكرات تفاهم مشتركة حول مجالات الاستخدام السلمي للطاقة النووية والمجالات الثقافية والنفط والغاز، مثلما بيَّن العاهل في ثنايا كلمته المشار إليها، والتي ألقاها في مأدبة الغذاء الرسمي التي أقيمت على شرفه وبحضور كبار مسؤولي الدولتين، وكانت فاتحة خير لتبادل الزيارات والمشاورات والمباحثات بين البلدين منذ هذه اللحظة وحتى اليوم.
وتواصلت تحركات قادة البلدين لفتح آفاق جديدة في علاقاتها الثنائية، وذلك بالنظر للزيارة المهمة التي قام بها سمو ولي العهد لموسكو في أبريل 2014، والتي اكتسبت أهميتها هي الأخرى من كونها أرست كثيرا من الدعائم الأساسية للتعاون بين البلدين، حيث تم الاتفاق على إنشاء الشركات المشتركة في الأسمدة والبترول، وفتح خطوط طيران مباشر بين البلدين، وغيرها، والتي هدفت في مجموعها إلى رفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين وتوسيع أطر المشاورات والتفاهمات السياسية بينهما.
وبدت أهمية زيارة ولي العهد لموسكو مما سبقها من تحركات واتصالات دبلوماسية متبادلة بين البلدين، وكان في مقدمتها: زيارة الممثل الخاص للرئيس الروسي واستقبال العاهل وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد له في النصف الأول من شهر أبريل 2014، واستضافة المملكة لأعمال الاجتماع السابع لمتابعة نتائج الزيارة السامية لروسيا التي جرت العام 2008، وهو الاجتماع الذي ترأسه وزير الصناعة والتجارة البحريني بحضور السفير الروسي لدى المملكة، ومشاركة البحرين في الاجتماع الوزاري الثالث للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وجمهورية روسيا الاتحادية، والذي عقد بالكويت في فبراير 2014 أيضا.
وتوجت كل هذه التحركات والاتصالات الدبلوماسية بزيارة العاهل نفسه لروسيا في أكتوبر 2014، إذ تم إجراء جولة مباحثات واسعة مع الرئيس الروسي وسط ترحيب كبير قوبل به هناك العاهل من جانبه ومن جانب رئيس وزرائه وكبار مسؤولي الدولة الروسية، وشملت المباحثات كل أوجه التعاون الثنائي بين البلدين، وتطرقت لكل ما من شأنه أن يكفل ديمومة واستمرارية العلاقات المشتركة، وسبل العمل الضرورية واللازمة لتقنين هذه العلاقات وتأطيرها وتنظيمها، وبما يضمن في الوقت ذاته تدعيم المواقف المشتركة وترسيخها، والتي أبداها الطرفان ناحية الملفات والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام.
ومن المهم هنا التأكيد على أن هذه الزيارة السامية، التي جاءت تلبية لدعوة الرئيس فلاديمير بوتين لحضور سباق جائزة روسيا الكبرى للفورمولا واحد في نسخته الأولى الذي أقيم على حلبة سوتشي الدولية، كشفت عن أمور عدة جوهرية:
أولها: تناغم المواقف الثنائية تجاه الملفات المحلية والإقليمية والدولية وتقدير الدولتين لهذه المواقف إزاء الأخرى، وهي المواقف التي بحاجة إلى دعم وتمتين والعمل المشترك من أجل تنميتها وتطويرها، سيما فيما يتعلق بملفات وقضايا الأمن الداخلي لكلتا الدولتين في مواجهة الإرهاب، علاوة على ما يتصل ببواعث الاستقرار الإقليمي التهديدات التي يتعرض لها.
ثانيها: حجم المصالح المشتركة بين البلدين، والتي بدت أنها تتعدد وتتنوع، ولا تقتصر على مجالات التعاون التقليدية والنقل الجوي والتنمية العمرانية والأمن الغذائي فحسب، وإنما تشمل كل مجالات التعاون المستحدثة، من قبيل الجوانب الصناعية والصيرفة والمال والسياحة والتبادل الثقافي، وسبل العمل المطروحة من أجل الاستفادة من المزايا التي تتوافر في البلدين لدعم الاستثمار والتعاون المشترك.
ثالثها: البناء على ما تم إنجازه من لبنات في صرح التعاون الثنائي، وذلك في ظل الأجواء الإيجابية القائمة بين البلدين الصديقين، وقوة الدفع التي تكتسبها العلاقات الثنائية على مدار السنوات السابقة مع حرص قادة البلدين على تعزيزها ودعمها في الكثير من القطاعات.
وهنا يشار إلى أنه قبل سنتين، احتُفل بمرور أكثر من 25 عاما على إقامة العلاقات بين البلدين، وتتواصل الاجتماعات المشتركة بين مسؤولي الدولتين، وبلغت سبعة اجتماعات أسفرت عن تفاهمات واتفاقات ومذكرات تعاون وبرامج عمل في الكثير من المجالات، منها الثقافي والسياحي، ومجلس للأعمال المشترك، فضلا عن مشاريع التعاون الاستثمارية كتلك القائمة بين ألبا البحرين ونظيرتها الروسية وغيرها.
ويُنتظر أن تسفر المباحثات التي سيجريها العاهل مع الرئيس الروسي عن تبادل وجهات النظر بشأن العديد من الملفات الإقليمية والدولية، والتي من الواضح أنها تجرى بشكل منتظم وعلى مستوى كبار القادة والمسؤولين، الأمر الذي يتوقع معه التوصل لتفاهمات ورؤى متناغمة إزاء التحديات والتهديدات التي تواجه المنطقة والعالم، وفي مقدمتها الإرهاب، والملف السوري وقضايا الأمن والاستقرار ومكافحة التطرف والتنسيق في المواقف الدولية، وغير ذلك.
ولا يغيب بالتأكيد هنا مدى ما يمكن أن تحققه الزيارة السامية من مردود وعائد على وضعية البحرين وصورتها وثقلها في المحافل المختلفة، وكيف ستسهم في فتح آفاق جديدة لبيئة الأعمال الوطنية ومنتجاتها ومواردها الاستثمارية، والترويج للبيئة الاستثمارية الداخلية من تسهيلات ومحفزات لرأس المال الأجنبي، والمسارعة في تحقيق رؤية البحرين الاقتصادية 2030، علاوة على فتح الباب أمام القطاع الخاص الوطني وإتاحة الفرصة له وإعطائه زمام المبادرة ليقود قاطرة النمو الاقتصادي في المستقبل القريب.
فالتجربة البحرينية في التنمية حظيت بثناء وتقدير روسي واسع، مثلما أكد ذلك مسؤولون روس خلال لقاءاتهم المتعددة مع نظرائهم البحرينيين، ونوهوا بالنجاحات الكبيرة التي حققتها البحرين في المسارين التنموي والإصلاحي، أي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي على السواء.
فضلا بالطبع عن تدعيم الرؤى المشتركة بشأن السبل المناسبة لدعم الأمن والاستقرار الإقليمي، خصوصا بالنظر إلى المستجدات الحاصلة على الأرض في الخليج والمنطقة العربية، والتماس الروسي مع أبرز ملفاتها شأنها شأن القوى والأطراف الدولية الأخرى المعنية بأمن هذا الجزء من العالم.