+A
A-

وتسلم الشيخ حمد زمام الحكم

بقلم-السيد البابلي [email protected]

وبدأت البحرين مرحلة جديدة بتولي الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الحكم. وفي 13 مارس ألقى الأمير الجديد أول كلماته الى الشعب حيث نعى فيها والده الفقيد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان، وخص عمه الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة “بالإشادة بالدور الرائد الذي قام به معه يدا بيد شقيقه وساعده الأيمن صاحب السمو العم العزيز الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر منذ اللحظة الأولى حتى اللحظة الأخيرة في خدمة الوطن وبناء الدولة وقيادة الحكومة بنهجه البصير وجهده الكبير بما وفر للبلاد رصيدا من الحكمة والتجربة والتنظيم كان وسيبقى دائما مصدر فخر لنا ومصدر إلهام وقدوة في مواجهة مهام العمل الوطني ومتطلبات المستقبل”. واستطرد الأمير يقول “فالشكر كل الشكر لسموه حفظه الله على كل مواقفه القيادية المشرفة التي وقفها في مسيرة هذا الوطن مرحلة بعد أخرى واثقين أن سموه بما حباه الله من ثاقب النظر وقوة العزم سيواصل معنا ومعكم بإذن الله مسيرة العطاء الذي ننتظره منه ومن جيل الآباء الذين رافقوه في ملحمة البناء على امتداد المسيرة.
والكلمة كانت بليغة وواضحة وحاسمة ومحددة لأدوار المستقبل وشكل العلاقة في مؤسسة الحكم.
والأمير الجديد في هذه الكلمة أراد ان يقطع الطريق على اية تفسيرات أو تأويلات أو تخمينات ويؤكد دور ومكانة الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة كرمز تاريخي في مرحلة بناء البحرين الحديثة واستمرار هذا الدور في المرحلة الجديدة.

تجاوب وتناغم
وفي 14 مارس 1999 فإن الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة وفي كلمة ألقاها أمام مجلس الوزراء تحدث فيها عن عطاء الأمير الراحل الذي سيبقى شامخا في تاريخ أمته شموخ انجازاته الكبيرة وخلفه العظيم وستبقى ذكراه العطرة حية عزيزة في وجدان بلاده وشعبه الوفي.
وتوجه الشيخ خليفة بعد ذلك ليرد على ما جاء في خطاب الأمير في اليوم الذي سبقه حيث كانت كلماته قوية ومعبرة عن التجاوب والتناغم في تحديد ورسم الأدوار “اننا في هذه الأيام الحزينة لنستمد عزاءنا في عيسى من خليفته الابن العزيز حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أمير البلاد المفدى أطال الله في عمره وكلنا على ثقة بأنه سيكون خير خلف لخير سلف وبأن عهده وبما يملكه سموه من حكمة وقدرات قيادية وحسن تدبر سيكون عهد ازدهار وخير وتقدم كما كان عهد عيسى”.
و”إنه لموضع اعتزازنا بأن نبذل أقصى الجهد والعطاء في مساندة ودعم صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة على نحو ما قمنا به الى جانب المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان لمواصلة البناء على ما أسسه الراحل العزيز وطنيا وإقليميا وعربيا ودوليا”.

وسلمان وليا للعهد
أما الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى الذي أصبح وليا للعهد فقد حرص الشيخ خليفة بن سلمان رئيس الوزراء في نفس الكلمة على أن يعبر عن “أطيب تمنياتنا بكل التوفيق والسداد لسمو الابن العزيز الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة الذي حاز تعيينه وليا للعهد على رضا واعتزاز الجميع”.
وفي ظل هذه الأجواء التي حملت شعورا بالحزن على الأمير الراحل وثقة وتفاؤلا في المستقبل بعد ترتيب البيت الخليفي الحاكم بهذا التوافق والتناغم فإن البحرين بدأت مرحلة حمد بن عيسى أميرا وخليفة بن سلمان رئيسا للوزراء وسلمان بن حمد وليا للعهد وهي قيادة جمعت ما بين الخبرة والشباب والحماس وإن كانت بين مدرستين مختلفتين في الإدارة والسياسة تجمع بينهما الرغبة في أن تظل للبحرين مكانة وقامة.

عيون الرحيل الهادئ
وفي هذه الأثناء التي كانت تشهد مرحلة تثبيث دعائم انتقال السلطة الذي تم بسلاسة وفقا للدستور كنا نسابق الزمن في محاولة إصدار كتاب عن الأمير الراحل يكون جاهزا للنشر في ذكرى الأربعين لوفاته وأن يتضمن كل ما كتب عنه بعد رحيله من مقالات الرثاء وكلمات الوفاء.
واستوقفتني كلمة منشورة في صحيفة “الاتحاد الإماراتية” بتوقيع نور العين تحت عنوان “عيون الرحيل الهادئ” وهي من أفضل الكلمات التي كتبت عن الراحل وفي مقدمتها “رحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين رحمه الله بهدوء كما عاش بلا عواصف أو زوابع وكأن الموت أسلوبا مثل الحياة تماما والله يفعل بنا ما يريد في الحياة والموت”.
وتمضي الكاتبة لتقول “عاش الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مراحل الغليان في الأمة العربية والعالم كله وحكم البحرين وسط أمواج عاتية وعواصف هوجاء ونيران متأججة وتقلبات دراماتيكية في الاتجاهات والسياسة الدولية وأحداث ساخنة في الخارج والداخل ولكن أحدا لم يسجل على الشيخ عيسى يوما انه خرج عن هدوئه أو فقد أعصابه أو أفلت منه الزمام، والحقيقة ان الكلمة كانت معبرة عن كل شيء.
وأتى الشاعر الكبير غازي القصيبي بقصيدة “عيسى” التي لم تعبر عن حزن الشاعر فقط ولكن عن حزن كل من عرف الأمير الراحل.

عيسى!
عيسى ويجهش بالبكاء.. بكاء..
أأعود والبحرين منك خلاء
أفرحتني زمنا.. ففيم تركتني
وعلى ضلوعي غيمة سوداء
يجري على وجهي الوجوم.. ولم يكن
يجري ووجهك مشرق وضاء
حسناؤك البحرين.. مثلي في الأسى
يا للأسى إذ تطرق الحسناء
سن الحداد.. القادة الرؤساء
وتوافد الزعماء والأمراء
اما انا بين الجموع فواحد
ممن عشقت رفاقك البسطاء
من غير ميعاد تزور بيوتهم
والهم يغمرها.. أو السراء
انا واحد ممن أتيت تعودهم
والداء يقتلهم وأنت شفاء
أنا واحد ممن شهدت مصابهم
والحزن يصهرهم وأنت عزاء
انا واحد ممن ضحكت لضحكهم
حتى تورد بالشموس مساء
واليوم نمشي في الفجيعة مثلما
تمشي اليتيمة خانها الآباء
كنت الوفي مدى السنين.. ودمعنا
بعد الرحيل.. امانة ووفاء
صدقت ونؤثر كذبها الأنباء
الله شاء.. ولا يرد قضاء
هاك الهدوء! فأنت ما جربته
حتى كأنك بالهدوء تساء
وخذ السلام.. فما عرفت طريقه
والحكم عندك محنة وعناء
دعوات كل الناس في جنح الدجى
لك.. هل يخيب على الكريم دعاء

سياسات جديدة
وانقضت فترة الحزن، وتسير عجلة الحياة ولا تبقى إلا ذاكرة الأيام تسجل وتكتب وتحتوي دروسا وعبرا للتاريخ ونستفيد منها في المستقبل ولكن التاريخ كما يقول الفيلسوف “هيجل” لا يعيد أبدا نفسه فالتاريخ نتعلم منه العبر وما عدا ذلك فهي مراحل مختلفة في أزمنة متغيرة.
والأمير الجديد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أتى ليكتب سطورا مغايرة في تاريخ البحرين الحديث بأسلوب وفكر مختلف.
“فالأمير الذي تولى الحكم وهو يبلغ من العمر 49 عاما كان يمثل جيلا جديدا من القادة الشباب الذين يبحثون ويطبقون نهج وفكر الإصلاح من الداخل استعدادا للتجاوب والتلاحم مع متغيرات العصر التي هبت رياحها على المنطقة وهي رياح ساخنة ومتقلبة ولا تحمل معها أمطارا للخير بقدر ما تثير الزوابع والاعاصير”.
وقرأ الأمير الشاب ملامح الصورة جيدا وأدرك بوعي ان الوضع يتطلب تغييرا وأنه لابد من إشراك الشعب نفسه في رسم الصورة الجديدة للمستقبل وأن يكون القرار جماعيا.
وفي 22 نوفمبر من عام 2000 فإن الملك حمد أصدر أمرا أميريا بتشكيل لجنة وطنية لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني ضمت 44 عضوا برئاسة وزير العدل والشؤون الإسلامية الشيخ عبدالله بن خالد.
وفي 23 يناير 2001 صدر أمر أميري بدعوة المواطنين للاستفتاء على مشروع الميثاق.
وفي يومي الأربعاء والخميس 14 و15 فبراير 2001 وفي احتفالية رائعة شهدتها البحرين وإقبال فاق التوقعات تم التصويت على الميثاق ووافق عليه الشعب بنسبة 98.4 % وبمشاركة شعبية عالية بلغت 90.3 %.
وخرج الشيخ حمد ليصف هذا الاستفتاء بأنه “كان فتحا جديدا في تاريخ البحرين”. وفي 16 فبراير 2001 صادق الملك على نتائج الاستفتاء وأعرب عن اعتزازه بإعلان البحرين مملكة دستورية.
أما ما هو الميثاق فهو عهد وطني ملزم للحاكم والمحكوم يتضمن مبادئ ومقومات وحريات مكفولة للجميع ويضع أسس المملكة الديمقراطية المدنية الحديثة ويمنح كل القوى السياسية والفكرية والمجتمعية كامل الحقوق الديمقراطية في التنظيم وحرية العمل وطرح ما تشاء دون قيود في إطار مشروع إصلاحي ديمقراطي وتاريخي يؤسس لدولة مدنية وعصرية متقدمة.
وفي 14 فبراير 2002 فإن الأمير الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أصبح ملكا لمملكة البحرين والشيخ سلمان بن حمد وليا للعهد وانتقلت البحرين من إمارة الى مملكة ومرحلة مختلفة من اسلوب الإدارة والحكم واختفت من الحياة السياسية وجوه وظهرت وجوه اخرى، وتغيرت موازين ومراكز القوة وإن كانت العلاقة الراسخة التي ظلت قائمة بين الملك حمد بن عيسى آل خليفة ورئيس الوزراء الأمير الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة هي المانعة لأية تقلبات ومفاجآت وهي صمام الأمان لاستقرار البحرين فوجودهما وتفاهمهما في الأزمات كان كفيلا بمواجهتها بثقة وأمان.
وفي الكثير من المرات التي أتيح لي فيها ان أستمع للأمير الشيخ خليفة بن سلمان وهو يتحدث عن الملك حمد بن عيسى فإنه حديث الرجل الحكيم المدرك ان المصلحة بكل أبعادها تقتضي التعاضد والتكاتف ومساندة الملك ودعمه في جهوده.
وعندما كنت أرى نظرات التبجيل والاحترام في أعين الملك وهو يصافح عمه كنت أدرك على الفور أن الشيخ عيسى لم يمت وأن المثل المصري الذي يقول “الذي خلف ما ماتش” ينطبق على سموه تماما، فهي نفس النظرات التي تعكس قلبا أبيض لا يحمل إلا الخير والمحبة للجميع.. قلب ملك كريم يغلف طيبته في الكثير من الأحيان بالنظرة العسكرية الصارمة وإن كانت الابتسامة لا تلبث ان تعيد وجهه الى طبيعته وجاذبيته.