+A
A-

وحانت لحظة وداع أمير الإنسانية

- 6 مارس 1999م... الشيخ عيسى يغادر دنيانا
- انتقال مثالي ودستوري للسلطة... والشيخ حمد أميرا
- وفي مقبرة الرفاع... كانت تأملات الحياة والموت
=======================================

بقلم السيد البابلي
وفي أي مكان وفي أي مصلحة أو وزارة أو هيئة فإن هناك شخصية محورية تمثل رمزا للمكان مهما تغير المسؤولون والوزراء. وفي وزارة الإعلام البحرينية يوجد “عبد العزيز الخاجة” أو عزيز كما يطلق عليه، مندوب قسم الأخبار بوكالة أنباء الخليج سابقا والتي تغير اسمها إلى وكالة أنباء البحرين حاليا. وعزيز لم يكن مندوبا فقط للأخبار لتغطية فعاليات وأنشطة الديوان الأميري ومجلس الوزراء، وإنما كان وكالة أنباء متحركة يحمل معه كل أخبار البحرين وما حدث فيها اليوم وما سيحدث غدا أيضا. ولا نعرف من أين كان عزيز يحصل على هذه الأخبار ويحتفظ بها في ذاكرته دون نسيان، ولكن المؤكد أنها موهبة عززتها وقوتها علاقات شخصية طيبة على أوسع نطاق جمعت بين عزيز وكل مسؤولي الدولة.

لن أنسى أبدا هذا اليوم، يوم السبت 6 مارس 1999، ففي هذا اليوم كنت في مجلس الوزراء كالعادة عندما وصل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين إلى مجلس الوزراء حيث كان في استقباله شقيقه الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء.
وألقينا التحية على سموه، وذهب كل منا الى مكتبه، بينما توجه سموهما الى إحدى قاعات مجلس الوزراء.
وبينما أنا في الطريق الى خارج مبنى مجلس الوزراء متجها إلى وزارة الإعلام حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا استوقفني أمن المبنى وقالوا إن شيئا ما حدث وسيارة الإسعاف في الطريق.
وعدت الى المكتب على الفور لأسمع أصواتا خافتة مكتومة تخنقها الدموع في حالة من الذهول والصدمة.. لقد توفي الأمير إثر نوبة قلبية فاجأته منذ دقائق.
وأصابني نوع من الصمت يتضمن إحساسا رهيبا بالحزن لأنطلق بعدها إلى وزارة الإعلام فقد كانت وفاة الأمير عليه رحمة الله تعني أن اليوم سيكون طويلا وأن هناك أخبارا سوف تذاع وتطورات كثيرة مصاحبة لهذا الحدث.
وفي الطريق إلى وزارة الإعلام وبينما الشوارع تبدو هادئة تماما، والناس لم تسمع بعد بالخبر.. فإن عشرات التساؤلات كانت تدور في رأسي في ذلك الوقت، هل ستكون البحرين بعد الشيخ عيسى هي نفس البحرين، ماذا سيحدث في الساعات القادمة وكيف سيكون انتقال الحكم وما هو شكل الحكم الجديد ورجالاته.
رحيل أمير عظيم
وجاء البيان الذي نعى إلى الشعب البحريني أميره الراحل حيث صدر عن الديوان الأميري ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
انتقل إلى رحمة الله تعالى فقيد البحرين الغالي وفقيد الأمة العربية والأمة الإسلامية المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد المفدى الذي وافاه الأجل المحتوم اثر نوبة قلبية مفاجئة تعرض لها سموه صباح اليوم.
والديوان الأميري يعلن الحداد الرسمي ثلاثة أشهر وتنكس الاعلام وتعطل الوزارات ومؤسسات الدولة الحكومية والقطاعين العام والخاص لمدة خمسة أيام ابتداء من اليوم السبت 18 ذو القعدة 1419 هجرية الموافق 6 مارس 1999م.
واليوم اذ تفقد البحرين ابنا بارا من ابنائها وقائدا فذا نذر نفسه لخدمة وطنه وشعبه وأمته لتدعو الله العلي القدير ان يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ورضوانه وأن يلهم شعب البحرين والأمة العربية والإسلامية الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا اليه راجعون. «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة»، صدق الله العظيم.
وفور إذاعة البيان فإن مجلس الوزراء عقد جلسة استثنائية ظهر نفس اليوم برئاسة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أمير البلاد المفدى وبحضور صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء حيث نعى الشيخ حمد إلى المجلس وفاة والده وأدى سموه اليمين الدستورية أمام مجلس الوزراء ثم قال سموه: بقلوب مطمئنة بقضاء الله وقدره ننعى اليوم والدنا فقيد البحرين وفقيد الأمة العربية والإسلامية صاحب السمو المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه وأسبغ عليه واسع رحمته ورضوانه وبالنظر الى ما عهد إلينا به والدنا رحمه الله في حياته من ولاية للعهد فإننا في هذا اليوم نحمل الأمانة لتولي مقاليد الحكم في البحرين مستمدين العون من الله تعالى وباذلين كل ما في وسعنا لخدمة بلادنا وشعبنا متبعين في ذلك النهج الذي سار عليه الراحل الكبير في خدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته ونسأل الله التوفيق.
وبيان لمجلس الوزراء
أما مجلس الوزاء فقد أصدر بيانا أوضح فيه ان اعمالا لأحكام الدستور والمرسوم الأميري رقم 12 لسنة 1972 بتوارث الإمارة والأمر الأميري رقم 4 لسنة 1975 ينادي مجلس الوزراء بخليفة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وولي عهده صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة أميرا للبلاد مبتهلا الى العلي العزيز أن يكلأ سموه بعنايته ورعايته ويحفظه من كل سوء.
وتمت عملية انتقال السلطة بهذه السرعة والسلاسة والهدوء بعيدا عن أية مفاجآت أو توقعات ليثبت البيت الخليفي أنه بالغ القوة في داخله وأن الأدوار والحدود والمسافات محدودة ومرسومة والتوافق قائم وواضح في كل الظروف.
وذهبنا للوداع
وذهبنا إلى مقبرة الرفاع للمشاركة في وداع الراحل الكبير.. كنت اعتقد انني سأجد امامي مقبرة ضخمة خاصة مشيدة بالرخام والنقوش والزخارف.. مقبرة خاصة لأمير سيزو قبره الملوك والرؤساء كما هي العادة في معظم الدول العربية.
ولم أجد إلا حفرة صغيرة في الأرض في انتظار الأمير الذي رحل عنا وبجانبها العديد من المقابر التي أقيمت تحت الأرض والكل سواء في مشهد يوحي ويذكر بالموت والقبر الذي سيكون نهايتنا والكفن الذي لا جيوب فيه، والمكان الذي لن يرحمنا فيه احد إلا العمل الصالح.
وأقف في انتظار وصول موكب الجنازة وبجانبي الشيخ خليفة بن عبدالله الذي كان مديرا للإعلام الخارجي وسؤال واحد نردده معا، هل البحرين على أبواب نظام جديد للحكم، وكيف سيكون شكل هذا النظام.
ويدفعك الإحساس بالموت في هذا المكان لأن تتخلى عن كل مشاعر وتطلعات الدنيا لتنطلق بعيدا محلقا بذهنك في السماء ناظرا يمنه ويسرة، فكل الذين دفنوا في هذه المقابر كانت لهم صولات وجولات مع الحياة وكان لبعضهم مهابته وقيمته والبعض الآخر جاهه وماله. وآخرون رحلوا دون أن يشعر أحد بوجودهم في الحياة أو الموت، ولكنهم جميعا كانوا يقفون في نفس هذا المكان يوما ما يودعون قريبا أو صديقا لهم وكانوا يعيشون الحياة كما لو كانوا سيخلدون فيها، فهذا نحن وهذه طبيعتنا، لا نتذكر الموت أو النهاية ولا نعمل كثيرا لها ولا نستعد لهذا اليوم إلا اذا ألم بنا المرض أو المصيبة.
فأمام ساعة الوداع في القبور، فإن كلا منا وهو يقف في هذه اللحظات ينتابه الخوف وتهبط عليه حالة من السكينة والهدوء الإيماني يكون معها مستعدا لأن يفعل أي شيء من اجل ان يحسن الله خاتمته.
وما إن يخرج الواحد منا من المقابر وينطلق لحال سبيله، الا ويتبدل حالا بعد حال وتتلاشى حالة الزهد والخوف ليعود مرة اخرى الى طبيعته أسدا باحثا عن فريسته يلتهمها في دنيا أصبح البعض يعتقد ان البقاء فيها للأقوى وللأكثر مالا وعددا.
وبعيدا عن كل هذه اللحظات التأملية الروحانية فإن للمقابر معي تاريخا آخر من الرعب والخوف،
فأنا من قرية صغيرة في دلتا مصر وحيث عشنا طفولتنا اياما كانت هذه القرى بدون كهرباء، والناس يستخدمون مصابيح «الكيروسين» في الإنارة.
وكنا ونحن صغارا قد اعتدنا أن نطوف أرجاء القرية أثناء الليل في حديث للتسلية والمرح فلم يكن التلفزيون قد انتشر بعد ولم يكن هناك إلا شاعر الربابة يطرب الساهرين ويسليهم.
وذات ليلة ونحن على مشارف القرية وحيث توجد القبور بشواهدها المرتفعة فإن الظلمة كانت حالكة وداعب الهواء احدى المصابيح التي كانت على مقربة من المقابر فأرسلت بأضوائها متراقصة لتبدو منها الشواهد وكأنها ترقص، وانعكس الضوء على خيالاتنا ونحن نسير فأحسسنا كأن أحدا يطاردنا.. وصاح من صاح.. العفاريت.. العفاريت.
وما حدث كان فيلما من الرعب في ليلة شتاء مظلمة فقد وضع كل واحد منا جلبابه في أسنانه وتخلى عن ما يرتديه في قدميه، وانطلقنا عدوا نحو القرية تسبقنا صرخاتنا وعويلنا العفاريت.. العفاريت.
ومن السخرية ان من قابلنا بالقرب من القرية لم يوقفنا ليسألنا عما حدث إنما انضم إلينا في العدو والهرب، فقد كان هناك إيمان بوجود الأرواح والعفاريت وألاعيبهم الشيطانية.
وفيما بعد وبعد أن مضى قطار العمر، وكلما زرت قريتي وتذكرت هذه العفاريت فإنني على الفور أردد لمن معي «وهو فيه عفاريت وشياطين إلا البني أدمين.. دا العفاريت تخاف منهم دلوقتي».
وأفقت من تأملاتي ومن العودة للوراء والموت والحياة لأجد الموكب قد وصل أمامنا.
فها هو الأمير الجديد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وهو يفسح الطريق بيديه لإنزال والده الشيخ عيسى الى مثواه الأخير، وها هو الشيخ خليفة بن سلمان رئيس الوزراء وقد وقف يغالب دموعا حبيسة على الاخ الذي لم يكن شقيقا فقط ولكنه كان الصديق قبل الشقيق ورأيت شعب البحرين بكل طوائفه، من استطاع الحضور، فالناس لم تعلم بموعد الدفن إلا قبلها بدقائق، ومع ذلك فقد كان المكان مكتظا عن آخره، بكل الذين جاءوا لوداع أمير الإنسانية والبساطة، الرجل الذي أجمعت عليه البحرين والذي كان بلسما لجروح وزهرة حب ندية في صحراء الخليج تضفي على المكان رونقا وتضيف إليه جمالا.
ولا يوجد ما يقال من كلمات عن هذا اليوم الذي انطفأت فيه شمعة ظلت موقدة من العاشر من شهر صفر سنة 1352ه الموافق 3 يونيو 1923م الى يوم السبت الثامن عشر من ذي القعدة عام 1419 هجرية الموافق 6 مارس 1999 ميلادية فلم يكن من رحل في هذا اليوم مجرد حاكم، فالشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كان روح البحرين وواجهتها، والانطباع الذي كان يتولد عند كل زائر للبحرين يقابل أميرها، اذا كان الأمير بهذه الطيبة فإن شعبه لابد ان يماثله كرما وخلقا.. كان وجود الشيخ عيسى كفيلا بأن يعشق الجميع البحرين وأن يحبوا أرضها وشعبها.
عودة للعمل
وعدنا إلى مكاتبنا نستعد لما هو قادم، لعشرات من قادة العالم سوف يأتون لعزاء البحرين، لرسائل العالم التي بدأت تتوالى بمجرد إذاعة الخبر تواسي شعب البحرين في مصابه الجلل.
وقضينا عدة أيام لا نعرف للنوم طعما أو مذاقا، فالضيوف يأتون من كل مكان والزيارات وإن كانت سريعة ومتلاحقة إلا ان لكل رئيس وملك من يأتي معه ويطلب المعلومات والصور لنقل الحدث.
وأتى الى البحرين من نذكر منهم ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز والعديد من أمراء السعودية من كل المناصب وأمير الكويت الشيخ جابر الصباح وولي عهدها الشيخ سعد العبدالله الصباح والشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي وحكام عجمان والشارقة ورأس الخيمة ودبي وأم القيوين والسلطان قابوس سلطان عمان والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر والملك عبدالله بن الحسين عاهل الأردن والرئيس المصري حسني مبارك والرئيس السوري حافظ الأسد وياسر عرفات رئيس دولة فلسطين والحاج حسن جوليد رئيس دولة جيبوتي والأمير سيدي محمد ولي عهد المغرب والدكتور سليم الحص رئيس وزراء لبنان والسيد طه محي الدين معروف نائب الرئيس العراقي والمهندس ساعدي القذافي نجل الرئيس الليبي والسيد عبد ربه منصور هادي نائب الرئيس اليمني والسيد علي عثمان محمد طه نائب الرئيس السوداني والدكتور عصمت عبد المجيد الأمين العام لجامعة الدولة العربية والرئيس مأمون عبدالقيوم رئيس جمهورية المالديف والرئيس ابراهيم مينا ساراباري رئيس جمهورية النيجر ونواز شريف رئيس وزراء باكستان والشيخة حسينة واجد رئيسة وزراء بنغلاديش والرئيس سليمان ديميريل رئيس الجمهورية التركية والرئيس نيلسون مانديلا رئيس جمهورية جنوب افريقيا وعدد كبير من القادة والمسؤولين من كل دول العالم.
وأصدر الرئيس الأميركي بيل كلنتون بيانا خاصا اعرب فيه عن مواساته للشعب البحريني قائلا ان الشيخ عيسى كان صديقا للشعب الاميركي محبا للسلام.
ولن أطيل في ذكر أسماء من حضر ولا البيانات التي صدرت عن كل الدول.. لقد كان هناك اتفاق على ان العالم قد خسر أميرا محبا للخير حريصا على ان تسود العلاقات بين الدول الود والوئام، أميرا لا يعرف الحقد مكانا في قلبه، ولا تجد في وجهه إلا ابتسامة صافية حتى في أحلك الأوقات.