+A
A-

“علبة الكبريت” التي اشتعلت في وجه كل العرب

- الجزيرة جاءت للمنطقة بنصيحة من شيمون بيريز
- حمد بن جاسم اشترى الجزيرة ليكون لقطر دور مؤثر
- هاجموا كل العرب... افتحوا كل الملفات... وابتعدوا عن قطر!
- بدأوا بالسعودية ثم مصر... والهدف إضعاف الكبار
- الأداء الإعلامي العربي التقليدي وراء نجاح قناة الدوحة
- جيل عربي جديد يتابع رونالدو وميسي ولا يعرف شيئا عن بلاده
- هل بمقدورنا إعادة مشاعر الغيـــرة والانتمـــاء للعــروبـة؟
===============================
بقلم السيد البابلي

وفجأة وبدون مقدمات ظهرت قناة “الجزيرة” في نوفمبر عام 1996 بمجموعة من المذيعين ومقدمي البرامج من المحترفين الذين تركوا دولهم العربية لظروف سياسية أو مطاردات أمنية وذهبوا إلى لندن وأقاموا فيها وعملوا في الـ “بي بي سي” التلفزيونية باللغة العربية.
والذين لا يعرفون الـ “بي بي سي” أو هيئة الإذاعة البريطانية يجب ألا يثقوا كثيرا في كل ما يقال عن الحيادية والمصداقية وحرية الإعلام.
فلا يمكن أن تكون هناك موضوعية في نقل الأخبار والتعليقات لهيئة إذاعة حكومية رسمية تابعة للحكومة البريطانية وتخدم مصالح حكومة صاحبة الجلالة.
ولكن تلفزيون الـ “بي بي سي” واجه صعوبات مالية بالغة في الاستمرار كما انه لم يكن له دور مؤثر مثل اذاعة الـ “بي بي سي”.
وبدأت السلطات البريطانية تفكر في إغلاق القناة العربية، وإن كانت قد ترددت كثيرا في ذلك خوفا من التعويضات الضخمة وحقوق العاملين بالقناة.
دور شيمون بيريز
ولأن هناك مصالح وأجهزة مشتركة وتبادلا للمعلومات والأدوار، ولأن إسرائيل موجودة في العقل الغربي، والعقل الغربي موجود في اسرائيل فإن عراب الجزيرة ظهر على السطح يخطط لما هو ابعد من مجرد قناة تلفزيونية إخبارية.
كان هناك تفكير آخر لشيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي الذي رأى ان وجود القناة التلفزيونية التابعة لـ “بي بي سي” في لندن لا يخدم كثيرا الأهداف السياسية المرجوة، فالمشاهد العربي سيتعامل معها على انها قناة بريطانية وسوف يتشكك كثيرا فيما تبثه من برامج وما تذيعه من تعليقات.
ووجود هذه القناة في دولة عربية سيكون اكثر فائدة خصوصا مع تحديد أدوار جديدة على المدى القصير والبعيد.
وبحث بيريز فلم يجد غير قطر، فهي دولة صغيرة تمتلك احتياطات وافرة من الغاز وتمتلئ خزائنها بالأموال وتبحث عن دور جديد لها في المنطقة الخليجية كدولة ذات تأثير في القرار الخليجي وليست دولة تابعة.
واجتمع شيمون بيريز مع حمد بن جاسم آل ثاني وزير الخارجية القطري في لندن.
وأقنع بيريز حمد بن جاسم بشراء القناة الإنجليزية ونقلها الى بلاده، حيث برر له ذلك بأن الدول الصغيرة تصبح دولا كبيرة اذا كانت لها أدوار مميزة في المسرح العالمي.
ودلل شيمون بيريز بإسرائيل حيث قال إنها دولة صغيرة مقارنة بجيرانها ولكنها دولة كبيرة في المنطقة لتفوقها العسكري!
وكانت نصيحة بيريز لجاسم “أنتم دولة صغيرة ولكن في مقدوركم ان تكونوا الدولة الأكبر في المنطقة اعلاميا ومن يسيطر على الإعلام تصبح كلمته مسموعة”.
وهذه الرواية التي تحكي كيف انتقلت الجزيرة الى الدوحة بعد ذلك ذكرها لي مسؤول عربي رفيع المستوى اكد انه علم بها من مصادر دولة غربية كبرى عندما كان هذا المسؤول يشكو مرارا من تجاوزات “الجزيرة” في حق بلاده.
وأتت “الجزيرة”
وعندما تلاقت إرادة شيمون بيريز مع أهداف حمد بن جاسم فإن الجزيرة بكل أطقمها الفنية والتحريرية أتت الى الدوحة باتفاق واضح محدد وهو أن مساحة الحرية المخصصة لها ستكون بلا حدود وأنه لا يوجود أي حظر على فتح كل الملفات الحساسة في العالم العربي التي لم يكن هناك من يجرؤ على الاقتراب منها من قبل مثل قضايا الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ولكن عليها أن تحذر من الاقتراب من دولة قطر أو تناول شؤونها وصراعاتها الداخلية بالتعليق.
وهذا ما حدث بعد ذلك، فشيمون كان يهدف الى ان تكون الجزيرة هي من يحدث التغيير في العالم العربي، وهو تغيير يبدأ بإثارة وتفجير الألغام في وجه الأنظمة العربية الحاكمة وإشعال أزمات داخلية بها، تؤدي الى تفكيك كياناتها وإضعاف تأثيرها وهويتها.
وعلى طريقة “الفتوة” في روايات أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ فإن “الفتوة” يبدأ بتثبيت وجوده في الحارة بالاعتداء على أول من يتعرض له من أكبر عائلة حتى يرسل بذلك رسالة ارهاب للآخرين فإن اول معارك الجزيرة كانت مع السعودية.
فقد أرادت قطر ان تخرج عن الأعراف الخليجية المتبعة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وكانت المملكة العربية السعودية بمثابة الأب الروحي لدول مجلس التعاون ولكلمتها ونصائحها مكانة خاصة.
وكانت سياسة قطر في ذلك تهدف الى التأكيد على ان جميع دول مجلس التعاون سواسية وأن عصر الكبير والصغير انتهى!
وبهدف إحراج السعودية التي تلجأ دائما لسياسات النفس الطويل وتتجنب الدخول في أية مواجهات فقد زادت الجزيرة من حدة انتقاداتها للمملكة وكأنها تريد ان ترسل إشارة لبقية دول مجلس التعاون بأن السعودية لن يكون بمقدورها أن تفعل شيئا وأن قطر أصبحت دولة أخرى لها كلمتها وقرارها.
وهجوم على مصر
وبعد السعودية جاء الدور على مصر، وتفرغت الجزيرة التي قال عنها الرئيس السابق حسني مبارك إنها علبة كبريت للهجوم على مصر، والتقليل من أهمية الدور المصري، وكان ذلك بتوجيه مباشر من حمد بن جاسم الذي كان يسعد كثيرا كلما ازداد الغضب المصري الإعلامي، وكلما عبرت مصر عن عدم رضاها عما تقوم به “الجزيرة” متعللا دائما بأن دولة قطر لا تتدخل في عمل الجزيرة ولا تفرض عليها قيودا ولا تمارس عليها أي نوع من الرقابة وهذه هي حرية الإعلام.
ولعبتها الجزيرة بكل الخبث الإعلامي والسياسي ووقع فيها العرب بكل السذاجة وحسن النية..
فقد استضافت في برامجها السياسيين والمثقفين المصريين والعرب وأدخلتهم في برامج حوارية فيها الرأي والرأي الآخر ودفعهم الى كشف كل المستور وتعرية كل الأوراق وتسفيه كل الثوابت والرموز وأدخلتهم في حالة من الجدل الذي يصل بالمواطن العربي الى حالة من الضبابية وفقدان الثقة في انظمته وقادته وتاريخه ايضا.
وبينما كانت “الجزيرة” تمارس الدور الظاهري المرسوم لها، فإن منظمات وجهات غربية أخرى كانت تقوم بتكملة الدور من خلال تدريب واحتواء الشباب العربي تحت مظلة التدريب على حقوق الإنسان والديمقراطية في عصر الشفافية.
وتلقى مئات من الشباب العربي من مختلف الدول دورات مكثفة في معاهد بحثية متخصصة في عملية تغيير الأنظمة، وهي المجموعات التي ظهرت بعد ذلك بسنوات عندما بدأ ما أطلق عليه بالربيع العربي، وهو المخطط الذي كان يهدف إلى إحداث ثورات في كل الدول العربية لبناء شرق أوسط جديد يخلو من القوى المحورية العربية التي ستكون مشغولة بمشاكلها الداخلية.
والذين تابعوا “الجزيرة” خلال أحداث الثورة المصرية في يناير 2011 لابد أنهم لاحظوا كيف لدى هذه القناة أرقام هواتف كل “النشطاء” السياسيين من الشباب الذين يتم الاتصال بهم ليتحولوا الى مندوبين للقناة يذيعون على الهواء مباشرة تفاصيل ما يجري في المحافظات ويثيرون الجماهير ويعلنون مطالب الثوار بنفس العبارات والكلمات والمفردات.
لماذا نجحت “الجزيرة”؟
والواقع أنه لا يمكن إنكار نجاح “الجزيرة” في تحقيق أهدافها ودغدغة مشاعر المشاهد العربي وإقناعه بأنها تتناول قضاياه ومشاكله بحيادية ومصداقية.
ولكنه نجاح لم يتحقق بفضل مجهودات “الجزيرة” إنما جاء نتيجة للضعف العربي والإعلامي ولإغفال العرب لقيمة وأهمية الإعلام.
فقد عشنا عقودا طويلة واقعا إعلاميا متخلفا بعيدا عن المواطن واهتماماته وتطلعاته.
وكانت المدرسة الإعلامية السائدة في معظم الدول العربية هي التي تقوم على أساس أن الإعلام يخدم الأنظمة ويدافع عنها ويبرر أنشطتها ويتبنى وجهات نظرها.
وهي مدرسة أوجدت حالة من التباعد بين المواطن ووسائل الإعلام الصادرة في بلاده، ووصلت الى الحد الذي تلقى فيه كميات كبيرة من الصحف اليومية على الأرصفة لتوزع مجانا ومع ذلك لا يقبل عليها القارئ!
ولأن الإعلام أيضا كان مهنة من لا مهنة له فإن وسائل الإعلام العربية الرسمية امتلأت بالعديد من الإعلاميين من غير الدارسين أو الموهوبين فكان أداؤهم المرتبك الذي يتعامل مع الإعلام على انه وظيفة وليس رسالة سببا في عزوف المشاهد عن متابعتهم أو تصديق ما يقولونه.
ولم يتطور الفكر الإعلامي الرسمي بنفس السرعة التي تطور بها عقل المواطن العربي، وعندما يصبح المواطن أكثر ثقافة ودراية وتحررا في العقل من وسائل إعلامه الرسمية فإنها تصبح موضعا للسخرية ولا يقبل عليها ويبحث عن وسيلة اعلامية أخرى تحترم عقله وذكاءه.
محاولات للإنقاذ
وكان لابد من البحث عن وسائل إنقاذ ضد كبريت الجزيرة الذي اشتعل في وجه الجميع. وسارعت بعض الدول العربية الى إنشاء قنوات فضائية اخبارية لها كل الإمكانيات من أجل أن تكون صوتا آخر للحقيقة والمعالجة الموضوعية للقضايا العربية.
فظهرت قناة “العربية” الإخبارية وتولاها عبدالرحمن الراشد وهو إعلامي له تاريخ طويل في العمل الصحافي ومن رموز الإعلام في المملكة العربية السعودية وسبق له أن تولى العديد من المناصب القيادية في مجلة “المجلة” والشرق الأوسط وكانت كتاباته تعكس بعدا تحرريا مميزا ووجهات نظر تتسم بالعقلانية والاستقلال.
وظهرت في مصر قنوات النيل الإخبارية تحاول تعويض ضعف الفضائية المصرية التي ظلت الى اليوم بدون توجه واضح في سياساتها وأهدافها وتغطياتها.
وضعف تأثير الجزيرة عندما بدأ الإعلام العربي يحترم مشاهديه ويفسح مساحة أوسع لحرية الرأي والتعبير، فكانت الفضائيات التلفزيونية المستقلة التي ظهرت في الساحة بعد سنوات طويلة هي الأكثر جذبا للمشاهد العربي خصوصا عندما دخلت في صراعات مع الأنظمة الحاكمة وساهمت في إسقاطها كما حدث بعد ذلك في مصر باتحاد كل الفضائيات المستقلة ضد حكم الإخوان المسلمين ووقوفهم ضد الرئيس محمد مرسي.
ويبقى الدرس
ويبقى الدرس الأهم في تجربة الجزيرة ويتمثل في الاقتناع بأننا نعيش عصر الحقيقة الذي لا يمكن معه اخفاء المعلومة والأخبار ولا يمكن معه خداع الشعوب وتنويمها.
فقد شهدنا منذ تحرير الكويت عام 1991 ثلاث ثورات تكنولوجية هائلة ساهمت في تغيير العالم كله وتحقيق الحلم الذي طالما راود خبراء الإعلام في ان يكون العالم قرية صغيرة.
فخلال هذه السنوات ظهرت ثورة الفضائيات وتزامنت معها ثورة الهاتف الجوال أو المحمول ثم أتت ثورة الإنترنت أو الطريق السريع للمعرفة، وكلها ثورات غيرت تماما وجه العالم وقضت على الحدود والمسافات وأوجدت مواطنا جديدا بتعبير أطلق عليه “المواطن العالمي” حيث لا جنسية ولا تمسك بالمحلية انما ثقافة كونية جديدة تقتلع معها كل ارث الماضي وتخلق جيلا جديدا يتفاعل مع لاعبي كرة القدم رونالدو وميسي في مباراتهما في اسبانيا ويتابع لقاءات برشلونة وريال مدريد بشغف واهتمام بينما لا يعرف أسماء لاعبي بلاده ولا يهتم كثيرا بمبارياتهم المحلية.
هذا الجيل الجديد يحتاج الى إعلام مختلف يستطيع إقناعه وإشعال حماسه وغيرته على بلاده ويلبي احتياجاته ورغباته، ومما يؤسف له أن هذا الإعلام العربي مازال غائبا.