+A
A-

إهداء من إسراء لخليفة بن سلمان

في مدرسة نسيبة بنت كعب.. كانت البداية
قالتها بدرية المطوع “البنت دي ها تكون متفوقة”
الطبيب الإنجليزي.. لا تيأسوا.. كل يوم هناك جديد

================================================

بقلم السيد البابلي
وتمضى الأيام مسرعة، وفي عام تحرير الكويت رزقني الله بابنتي الأولى إسراء، النور الذي أضاء سماء حياتي، والنور الذي يضيء دنياي في كل وقت ومكان.. والهبة الإلهية التي كانت لي على الدوام رزقا وأملا ودرسا في الإرادة والتحدي. فمثل كل أب ينتظر اللحظة التي ينطق فيها طفله وأن يناديه بأغلى ما يريد كل أب أن يسمع بكلمة “بابا”، كنت في شوق وترقب لهذه المناسبة ولهذه اللحظة.
ولكنها لحظة لم تأت رغم مرور عام على ولادة ابنتي، ونداء لم يتردد في أرجاء المنزل وفرحة ظلت محبوسة في الصدور وأمنية مستعصية على الاستجابة.. وإلى الطبيب نذهب.. ويا دكتور هل هناك مشكلة؟ لا أعلم.. اذهبوا بها إلى طبيب للسمعيات..! وماذا سيفعل هذا الطبيب يا دكتور.. وما معنى طبيب سمعيات؟
وذهبنا إلى عيادة بها عشرات وعشرات في القاهرة.. وصراخ وعويل أيضا..
وأخيرا يقابلنا الطبيب ويجري اختبارات عدة بأجهزة سمعية ثم ينظر في اتجاهنا بكل هدوء وبرود.. البنت في حاجة إلى سماعة طبية، لقد فقدت حاسة السمع جراء مرض ألم بها ودرجة حرارة ارتفعت لأيام عدة دون انخفاض.. وسوف ترتدي سماعة خاصة لكي تتمكن من السمع..!
وليس مهما يا دكتور أن ترتدي سماعة أو نظارة.. المهم هل ستسمع؟
ويجيب الطبيب الذي اعتاد مثل هذه الأسئلة.. طبعا ستسمع ولكن مستوى السمع لن يكون كالإنسان العادي، سوف تسمع أصواتا ولكنها لن تستطيع التمييز بينها بسهولة، وهذا يحتاج إلى تدريب وجلسات تخاطب.
وماذا تقول يا دكتور.. هل تقصد أنها لن تسمع ولن تتكلم بشكل طبيعي..؟ ما هي الحقيقة يا دكتور..؟
ولا يوجد طبيب على استعداد أن يطلعك على الحقيقة مرة واحدة.. إنه ينقل إليك الخبر على مراحل حتى لا يصيبك بالذعر مرة واحدة، ولهم في ذلك قدراتهم الخاصة، فكلمة وراء أخرى حتى يدعك تقوم باستنتاج وتشخيص حالتك بنفسك وتكون أنت من اكتشف طبيعة مرضك وأنت من حددت مدى الخطورة.
المصارحة في لندن
وإلى لندن ذهبنا على الفور، فالطبيب في القاهرة اكتشف العلة، ولعل الطبيب في لندن لديه العلاج..
وفي لندن فإن نتائج الفحوصات هي نفس النتائج، والطب لم يزد عما قاله طبيب القاهرة إلا في شيء واحد، وهو أن العلم كل يوم يقدم الجديد لعلاج هذه الأمراض المستعصية وتمسكوا بالأمل في الله، ولكن عليكم أن تختاروا من سيقوم بتدريبها على التخاطب جيدا، فالسنوات الأولى مهمة للغاية، فإما أن يلتقط الطفل خيوط الكلام ويتعود على سماع الأصوات وإما أن تختلط عليه الأمور ويعجز بعد ذلك عن الكلام تماما.
وإلى البحرين عدنا.. وبحثنا في هذه الأوقات فلم نجد مراكز متخصصة للتدريب على التخاطب ولم نجد أطباء في هذا المجال.. ولا يوجد كذلك من في مقدوره تقديم المساعدة لنا.. وإن كانت البحرين وبعد سنوات عدة قد عرفت هذا المجال وأصبح بها العديد من المراكز والمتخصصين..
وكان القرار بالعودة إلى القاهرة فورا، فلا يوجد لدى الإنسان أعز وأغلى من أبنائه، فشعور الأبوة والأمومة هو الشعور الذي لا مبالغة فيه ولا تهرب منه ولا أقوى منه.
وعدنا إلى القاهرة لتدريب إسراء على الكلام من خلال طبيب متخصص في هذا المجال..
وفي رحلة شاقة يومية لمدة عامين كانت إسراء تحاول ونحاول معها، ولا نكتفي بجلسات التدريب عند الطبيب وإنما تستمر نداءاتنا لها في المنزل ومحاولاتنا فك عقدة لسانها بأن تنطق وتتحدث..
وقالت.. بابا..
وذات مساء وأنا أنطلق مع زوجتي عائدين بإسراء إلى المنزل وحالة من الوجوم تنتابنا وصمت عميق يحيط بنا، جاءنا صوت من المقعد الخلفي للسيارة يقول.. بابا.. بابا..
أوقفت السيارة مرة واحدة حتى كاد من ورائي أن يصطدم بي من الخلف.. نظرت إلى زوجتي.. هل يأتي هذا الصوت من داخل السيارة.. هل حقا سمعت كلمة “بابا”.. ها قد نطقت ابنتي..!
ولم تتحمل زوجتي مشاعر هذه اللحظة فانطلقت باكية.. وإسراء تريد أن تؤكد لنا أنها من تتحدث فاستمرت في ترديد الكلمة.. وأنا أرددها معها كالمجنون بأعلى الصوت.. وأقود السيارة بأسرع ما يمكنني للوصول إلى المنزل لمعاودة التدريب على الكلمة وكلمات أخرى.. فها قد بدأت بوادر التقدم.. والبداية بكلمة وما أحلاها من كلمة..
وبدأنا التفكير، زوجتي وأنا.. وماذا بعد؟ وماذا عن الدراسة والمدرسة.. هل ستستطيع الدراسة.. وهل ستوفق فيها..؟
وذهبنا إلى مدرسة في مدينة نصر وقالت المديرة لا مانع لدينا.. هذه حالة إنسانية تستدعي تقديم كل مساعدة والتركيز معها وسنضعها في مقدمة الصف..
ونفس المديرة “الفاضلة” التي رحبت بنا هي التي اتصلت بعد أيام عدة لتخبرنا أن علينا التوجه لاصطحاب ابنتنا؛ لصعوبة أن تتكلم وأن تستوعب ما يجري لها..
ولم يكن هذا متوقعا، فقد كنا قد بدأنا نعقد آمالنا ونبني أحلامنا ونجد وقتا للعناية بابنتنا الثانية “ندى” التي كانت قد أنهت عامها الثاني دون أن نشعر بها..
وفي هذه الأوقات فإن البحرين كانت في العقل والقلب معا، والصلة لم تنقطع وحبل الود والمحبة ممدود وقوي..
ومكانك بيننا موجود.. قالها الأستاذ محمد المطوع، والشيخ خليفة بن سلمان يريد الاطمئنان عليك.. انت واحد منا وما يصيبك يصيبنا..
ويا الله.. ما هذه الروح العظيمة.. ما هذه الكلمات المشجعة التي تأتيك في أوقات أنت فيها في حاجة إلى كل دعم وتشجيع.. ويا الله.. خليفة بن سلمان بكل مشاغله وهمومه يجد وقتا ليسأل عني وعن أطفالي..!
أنا قادم.. إليكم.. قلتها بأعلى الصوت لمحمد المطوع..
بدرية المطوع
ولم تمض أيام قليلة إلا وكنا في البحرين، وما أحلى الرجوع إلى هذا البلد وأهله وإلى الناس الطيبين الذين أحاطونا حنانا وحبا..
وإلى مدرسة نسيبة بنت كعب الابتدائية في منطقة الرفاع أخذنا إسراء وشرحنا للمديرة السيدة بدرية المطوع مشاكلها مع السمع وتجربتها في مدرسة البيان في مصر..
“ومشاكل إيه.. البنت ها تكون متفوقة.. وبكرة تشوفوا” قالتها السيدة بدرية وهي تحتضن إسراء وتقبلها..
وشعرت إسراء في أحضان السيدة بدرية بالأمان.. أحست أنها ستجد في هذه المدرسة ما يعيدها إلى الحياة..
ودون إطالة في شرح ما حدث بعد ذلك.. فإسراء قد وجدت نفسها في مدرسة بها من الإنسانية ما يذلل كل العقبات ويفتح كل الأبواب.
ومادام الطفل يجد حبا وعطفا فإنه يولد من جديد، وتنمو لديه ملكات الإرادة والعزم.
وانطلقت إسراء.. أصبحت تجيد القراءة والكتابة في وقت قصير.. وتحسنت قدراتها على الفهم والتحدث بشكل مثير للانتباه.. وتجاوزت المرحلة الابتدائية بتفوق وبنسبة نجاح عالية.
وتتابعت مسيرة إسراء في النجاح من الإعدادية للثانوية، حيث حصلت على الشهادة الثانوية أيضا بتفوق من مدرسة الرفاع الغربي الثانوية..
وعندما ذهبنا للاطلاع على نتيجة الشهادة الثانوية فإن زميلاتها وصديقات إسراء بالمدرسة كن يحتفلن بها وبنجاحها أكثر من احتفالهن بنجاحهن.. كن يحطن بها في سعادة وفرحة غامرة.. كان تفوق إسراء تفوقا لهن.. كانت هذه الروح هي ما سعدت به في هذا اليوم.. كان وجه ابنتي مشرقا وهي تعانق صديقاتها اللاتي كنّ معها طوال سنوات عدة ينتظرن هذا اليوم الذي سينتقلن فيه إلى عالم جديد للدراسة الجامعية.
المعلمة صغرى
وإذا كان هناك من فضل على إسراء بعد الله سبحانه وتعالى فهو لمعلمة من جزيرة سترة كانت مثالا على أن الخير موجود والدنيا لم ولن تخلو من قلوب طيبة تمتلئ حبا للآخرين وتضحية في سبيل إسعادهم.
وهذه المعلمة الفاضلة هي السيدة صغرى ربيع التي نالت شهادة الدكتوراه مؤخرا من القاهرة وكنت حريصا على أن أذهب أنا وزوجتي لنتابع مناقشة رسالة الدكتوراه ونصفق لها، فقد عملت بكد وبذلت جهدا كبيرا حتى حصلت على ما تتمنى.
فالمعلمة صغرى التي واظبت على رعاية ابنتي كانت تأتي يوميا من سترة إلى الرفاع وتظل معها بالساعات للتعليم والمراجعة وقد تركت أطفالها في المنزل وتفرغت لإسراء وأحبتها كابنتها وكانت لها ومعها أما مثالية قبل أن تكون معلمة تحمل في قلبها الكبير كل صفات الإنسانية ومعانيها.
وهذه المعلمة الرائعة واظبت على الاطمئنان هاتفيا على إسراء وهي في الجامعة، وكانت دموعها أسبق من عباراتها وهي تتلقى أخبار إسراء وتقدمها في الجامعة.
وإذا كنت أسجل اسمها في صفحات الكتاب فذلك أقل ما يمكن أن أقدمه لسيدة عظيمة ساهمت في أن تدخل السعادة في قلوبنا وستظل ذكراها معنا دائما، فهي ليست معلمة فقط بل هي جزء من أسرتنا شاركتنا همومنا وأفراحنا لسنوات طويلة، ولا يمكن لنا أن ننساها أو نبخسها قدرها.
تكريم الشيخ خليفة
وفي حفل عيد العلم.. وقف الوزير ماجد النعيمي يتحدث إلى المتفوقين في الثانوية العامة،وجاءت لحظة التكريم من الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الذي يرعى سنويا احتفال تكريم الأوائل..
وأتى الدور على إسراء.. نادى المذيع اسمها.. قفزت من على مقعدي.. هذه ابنتي.. هبة السماء التي تسطع اليوم.. كانت لحظات لا تنسى.. ويوم مشهود لفتاة قهرت المستحيل وضربت المثل في الإرادة والقوة.
وكما قال الطبيب في لندن.. فإن العلم يقدم كل يوم الجديد.. والجديد هو زراعة سماعة إلكترونية في الأذن تساعد على الاستماع بشكل أفضل وأدق..
وقالوا إن هناك أطباء عدة في العالم يجرون جراحة وضع أو زراعة السماعة الإلكترونية بنجاح وهم في أميركا وألمانيا.. وهناك أستاذ مشهور من العالم العربي موجود في مصر في جامعة الاسكندرية هو الدكتور عزيز بلال.
وقلت فليكن عزيز بلال.. ولنتوكل على الله ونذهب إلى الاسكندرية..
ويا دكتور هل هي جراحة مضمونة وآمنة..؟ وهل فعلا ستساعد كثيرا في تحسين السمع..؟ وأجاب الدكتور بلال.. اتركها على الله..
وبعد ساعات طويلة من الجراحة.. خرجت إسراء لتبدأ عالما جديدا من سماع الأصوات والتعود عليها وتحسين النطق والكلام..
وقالت إسراء.. لن أدرس إلا الطب.. وطب الأسنان.. وسأكون طبيبة إن شاء الله..
وقد كان ما أراده الله وما تمنته إسراء.. ففي جامعة المستقبل في القاهرة التحقت إسراء بكلية طب الأسنان.
وطوال خمس سنوات من المثابرة والرغبة في إثبات الذات كانت إسراء قصة من قصص النجاح والتفوق..
وقبل أشهر قليلة أنهت إسراء الدراسة وتقضي الآن فترة الامتياز حيث تمارس عملها كطبيبة أسنان تحت التمرين في أحد المستشفيات وتستعد لافتتاح عيادة خاصة بها.
وإسراء التي تهدي نجاحها وتفوقها للأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء كانت حريصة على أن تذهب إلى ديوان سموه في مجلس الوزراء لتقدم له شكرها وتهديه نجاحها، فقبل سنوات عدة بعثت لسموه برسالة تعبر فيها عن مشاعرها تجاه سموه لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ودمجهم في المجتمع، واليوم تجد الفرصة لكي تأتي مرفوعة القامة، فقد أوفت بعهدها لسموه على النجاح، ففي البحرين كان التعليم وفي البحرين كان التشجيع والمساندة..
لماذا أكتب عن إسراء
وقد يكون مهما أن أوضح لماذا الكتابة عن إسراء.. ولماذا الاستطراد في نشر تفاصيل قد لاتهم القارئ كثيرا..!
وأنا لا أكتب عن إسراء لسرد قصة إرادة وتحدٍ جرت وقائعها على أرض البحرين، ولا لأنها ابنتي التي أشعر بالفخر بها ومعها، وإنما أكتب عنها لأهدي قصتها لكل أسرة تعاني من ظروف مشابهة، ولكل أب وأم وجدا أن طفلهما يعاني مشكلة ما، واعتقدا أنه لا يوجد أمل ولا علاج.
فالحقيقة التي يجب أن نؤمن بها هي أن الله سبحانه وتعالى موجود، ومادام الوجود الإلهي قائما، فإن المعجزات ممكنة، والمعجزات لا تتحقق إلا مع قلوب مؤمنة صادقة في تقبل قضاء الله وقدره، واثقة في أنه بعد العسر يسرا، وأن ما علينا إلا أن نسعى ونكافح والتوفيق من عند الله وحده.
فقد رأيت أسرا كثيرة واجهت ظروفا مشابهة ولكنها لم تبذل ما عليها من واجب وتركت طفلها وحده يواجه مصيره معتقدة أن هذا هو نصيبه في الحياة وليس لديها ما تفعله إزاء ذلك.
وهو تفكير خاطئ ومنطق أعوج، فمسؤولية الأطفال هي في أعناقنا سواء كانوا أصحاء أم من ذوى الاحتياجات الخاصة.
والإعاقة للطفل هي نوع من الاختبار الإلهي للأسرة، فإن كان هناك تضحيات وعطاء فإن المولى عز وجل يبارك لهذه الأسرة ويساند طفلها إلى أن تعبر المحنة.
وأكتب عن إسراء لأقول لهذه الأسر، إن هناك نتيجة إيجابية في النهاية، وإنه بقدر الجهد المبذول يكون المردود، فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، فإذا كان الله قد حرم الطفل المعاق من الحياة الطبيعية فإنه قد منحهم قدرات وإمكانات أخرى تتطلب عملا ومتابعة خاصة من جانب الأسرة؛ لاكتشافها وتنميتها والبناء عليها.
وأكتب لأنبه المجتمع كله بالمسؤولية المجتمعية تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة وضرورة احتضانهم ورعايتهم ودمجهم في المجتمع بشكل تلقائي دون أن يكون ذلك منة أو عطفا عليهم.
ولابد في هذا المقام من الإشادة بالسياسات الحضارية الإنسانية التي تنتهج في البحرين لدعم ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والمتمثلة في منحهم نسبا من الوظائف وفي صرف إعانات شهرية ثابتة لهم مدى الحياة، وفي إعطائهم الأولوية في المساكن الحكومية وفي منح المتفوقين منهم منحا وبعثات دراسية تنفق عليها الدولة.
وكان قرار الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة بتخصيص عدد من البعثات الدراسية لأوائل الثانوية العامة من ذوي الاحتياجات الخاصة مثالا على أن البحرين دولة كبيرة في العطاء والحضارة الإنسانية.
وعندما جلست على المقعد الخاص لعلاج الأسنان وكنت المريض الأول الذي تقوم ابنتي إسراء بعلاجه، فإنني لم أطلب حقنة مخدرة قبل أن تبدأ مزاولة العلاج.. فقد كنت أشعر بسعادة تتضاءل معها كل آلام الأسنان.. وكنت مستعدا أن تقتلع أسناني كلها، فلم أكن لأحلم أنها ستصل إلى هذه المرحلة وستكون طبيبة أسنان.