+A
A-

وبدأت نهاية صدام في 2 أغسطس 1990

* القوات العراقية تغزو الكويت في ساعات
* وصول الشيخ جابر للسعودية أنقذ الشرعية
*الشيخ خليفة اطمأن على مواطنيه... واستضاف الكويتيين
* نداءات من مبارك متكررة... “يا صدام اخرج... اخرج يا صدام”
* إذا أتى الكيماوي لا تفعل شيئا... ستموت ستموت!
* نصيحة القذافي لصدام.. سوف يدمرونك دون أن تراهم
============================================================
بقلم: السيد البابلي
وأتى يوم الثاني من أغسطس عام 1990، أتى بكل مفاجآته ومصائبه.. وكوارثه..
في هذا اليوم كنت في مكتبي في رئاسة مجلس الوزراء مع فريق من العاملين في مكتب سمو رئيس الوزراء نتابع تطورات الموقف منذ أن بدأت الأزمة، وحيث طلب رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة أن تكون هناك غرفة عمليات مستمرة وجاهزة وأن نكون على اتصال دائم به لمتابعة الأحداث..
وفي حوالي السادسة صباحا انتبهت لصوت من الراديو الموجود خلفي، والذي ثبتت موجاته على إذاعة الكويت يأتي بنبرة حزينة منكسرة.. كان المذيع يقول.. «الكويت تتعرض للغزو ياعرب.. القوات العراقية عبرت الحدود.. لا أعلم إذا كنا سنواصل البث أم لا.. فالإذاعة أيضا أصبحت محاصرة»..!
وأفقت بسرعة.. هذا ليس حلما ولا كابوسا.. أنا مستيقظ تماما، وما سمعته بعنى أن الحرب قد بدأت..!
ولم أستطع أن أتخذ قرارا سريعا في الحال بإبلاغ رئيس الوزراء الذي كان موجودا في لندن..
كان الوقت مبكرا.. «وأجهزة التيكرز» لوكالات الأنباء العالمية لم تبث شيئا يثبت أن الغزو قد بدأ.. وكل محطات الإذاعة الأخرى لم تذكر شيئا.. ولم يكن موجودا في ذلك الوقت هواتف نقالة ولا فضائيات ولا إنترنت، وكان الاعتماد في الغالب على وكالات الأنباء.
ولم أتردد طويلا.. اتصلت على الفور بمحمد المطوع الذي كان برفقة رئيس الوزراء.. يا أبو بشار.. فيه خبر أسود «ومنيل بستين نيله».. قوات صدام تغزو الكويت الآن..
ويبدو أن محمد المطوع كان يتابع تطورات الموقف من لندن ولم يكن أيضا قد نام؛ لأنه قد استقبل الخبر بهدوء وطلب أن نطلعه أولا بأول على كل ما يحدث..

غزو الكويت
وما هى إلا ساعات قليلة حتى اتضحت الرؤية تماما، فالقوات العراقية عبرت الحدود ولم تكتف بالاستيلاء على حقول النفط المتنازع عليه، وإنما استمرت في تقدمها حتى احتلت الكويت بأكملها دون مقاومة أو قتال في عملية عسكرية بسيطة وغير معقدة.
ولكن الله سبحانه وتعالى حمى الكويت وشعبها عندما أنقذ شرعية الحكم ممثلة في الشيخ جابر الصباح أمير الكويت.
فقد استطاع الأمير عندما بدأ الغزو الخروج سالما من الكويت إلى الحدود السعودية حيث دخلها آمنا، وكانت هذه هي الخطوة الأهم في الإبقاء على شرعية الحكم، فقد فشل صدام بعد ذلك في تكوين حكومة جديدة بالكويت تحصل على اعتراف وتجاوب العالم.
وعندما استيقظت دول العالم في صباح الثاني من أغسطس عام 1990 وجدت أن هناك دولة قد تم احتلالها بالكامل في ساعات عدة.. وبدأت التساؤلات والتعليقات تدور في العالم.. هل سيظل صدام هناك وقتا طويلا أم إنه سوف ينسحب بعد أيام عدة؟ هل ينوي البقاء أم تغيير نظام الحكم في الكويت.. ما هي نوايا صدام.. وماذا سيفعل؟
وهناك في بغداد، كان صدام حسين في واد آخر، والتصريحات الرسمية كانت واضحة، لا كويت بعد اليوم.. الكويت محافظة عراقية وليست دولة مستقلة.. ولا خروج لقوات صدام من الكويت..
ونحن ظللنا في مكتب رئيس الوزراء، فريق عمل لا ينام يتابع مع وزارات الدولة كل التفاصيل ويقدم تقريرا موجزا كل ساعة عن ردود الفعل في العالم وعن مواقف دوله وعن أحوال الكويتيين النازحين الذين كان عدد كبير منهم في إجازتهم السنوية خارج الكويت كما هي عادتهم في هذا الوقت من العام ولم يكن في مقدورهم العودة بعد أن تحولوا إلى لاجئين بدلا من كونهم سياحا ومصطافين..!

اخرج يا صدام..!
وتوالت الأحداث.. فالولايات المتحدة الأميركية بدأت في الإعداد لحشد عسكري بغطاء من التحالف والمساندة الدولية للحرب ضد صدام وإجبار قواتة على الخروج من الكويت.
والقوات الأميركية بدأت في التدفق على المملكة العربية السعودية استعدادا للزحف..
والقمة العربية الطارئة منحت واشنطن غطاء عربيا للقيام بالعملية العسكرية.
والرئيس المصري السابق حسني مبارك أرسل رسائل عدة إلى صدام يحثه على الخروج من الكويت دون فائدة، فلم يجد مبارك بُدا من أن يخاطب صدام علانية المرة بعد الأخرى «اخرج يا صدام.. يا صدام اخرج بسرعة.. يا صدام ها يضربوك والله.. يا صدام اسمع الكلام»..
ولكن منذ متى وصدام يستمع لأحد.. فقد استهزأ صدام بكل هذه الرسائل،واعتبرها رسائل من الجبناء، مؤكدا أن القوات الأميركية ستواجه مصيرا أسوأ في الصحراء أشد عنفا وإيلاما مما وقع لهم من قبل في حربها في المستنقعات الفيتنامية.
وبينما الجنرال الأميركي نورمان شوارتزكوف قائد العملية العسكرية التي أطلق عليها «عاصفة الصحراء» يستعد بقواتة ويرسم خططه، فإن الموقف كان مختلفا داخل دول الخليج العربية.
فقد كان هناك حالة من الرعب والقلق بين المواطنيين من عواقب هذه الحرب واحتمالاتها..
وكان أخطر ما يخيف السكان هو صواريخ «سكود» العراقية التي قيل إنها قادرة على حمل الرؤوس الكيماوية، وإن في مقدورها أن تصل إلى كل المدن الخليجية..
ونقبل بالحرب.. نعم.. أما الكيماوية فلا.. الحرب فيها فرص للنجاة، أما الكيماوية فالفرص معدومة..

أقنعة الكيماوي
وللحرب أيضا فوائدها.. فهي التي تنعش مصانع الأسلحة وتوابعها، وهي التي تأتي على الشعوب المصنعة لأدوات الحروب بالرخاء والرفاهية وتخرب بيوت الذين سيضطرون لشراء ما يدافعون به عن أنفسهم ليضمنوا البقاء..
وفي المنتصف بين هؤلاء وهؤلاء، يأتي سماسرة الحروب الذين لا يعنيهم من ينتصر، ولكن المهم كم ستدخل خزائنهم من عمولات من صفقات الخراب..
والناس كانت على استعداد لأن تفعل أي شيء في سبيل النجاة من الكيماوي وعواقبه.
وفي البحرين انتشر منشور غامض قيل إنه منسوب لإحدى الشركات الكبرى.. والمنشور فيه ما يقول.. «إذا رأيت الطيور تتساقط من على الأشجار، والسيارات تتصادم.. وأنفاسك تنقطع، والسماء وقد تغير لونها، فلا تفعل شيئا ولا تختبئ في أي مكان.. فأنت ميت ميت، فهذه هي الحرب الكيماوية».
والناس كان لديها الاستعداد لتصديق أي إشاعة وأي خبر، فهو صدام العجيب صاحب المعجزات، فمن كان يصدق إنه سيغزو الكويت أكبر الدول التي قامت بتمويله في حرب إيران، ومن كان يعتقد في أن الغزو من الممكن أن يتم بكل هذه السهولة، ولا أحد يعرف ما الذي يخبئه صدام للأميركان.. ولدول الخليج..
وبعيدا عن الشائعات، فقد كانت هناك الاحتمالات.. فماذا لو سقط صاروخ سكود بالخطأ على البحرين.. وماذا لو كان محملا بالكيماوي وانفجر.. وما الذي يمنع أن تكون هناك عمليات تخريبية في دول الخليج ضد الأميركان، أو تفجير حقول النفط..
ومع كل المخاوف وصلت الشحنات الأولى من أقنعة الغاز من إحدى الدول التي كانت اشتراكية..
والأقنعة كانت من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ومن يرتدي هذا القناع ويضعه على وجهه فإنه لا يستطيع نزعه مرة أخرى إلا بعد أن ينزع معه جلد وجهه وفروة رأسه..
والذين جربوا ارتداء هذا القناع قالوا إن الموت بالكيماوي أرحم من الموت اختناقا به..!
ولكل حادث حديث.. وما يأتي من أميركا غير ما يأتى من بولندا على سبيل المثال.. والغرب عنده الرفاهية.. والشرق عنده التحمل.. ونحن نتبع دول الرفاهية وليس لنا علاقة بالمعاناة..
ومن أجل خاطرنا أتت الأقنعة المتطورة، مثل تلك التي تظهر في الأفلام السينمائية.. شكل مختلف ويتم ارتداؤها بسهولة ونزعها أسهل وليس لها مشاكل ولا تعقيدات.. أمان يا ربي أمان.. فقد ضمنا السلامة من الكيماوي.. سلاح صدام المرعب الذي يخترق الحدود والمسافات.
وما دامت الأقنعة قد وصلت فلابد من الاستعداد للمعركة وتأمين الاحتياجات المعيشية، فقامت كل عائلة بتجهيز غرفه خاصة في المنزل محكمة الإغلاق، بداخلها مخزون من المواد الغذائية يكفى لأشهر عدة تحسبا لأي طارئ..
ولم تتوقف التجهيزات عند هذا الحد، فشبابيك المنازل وضعت عليها أشرطة لاصقة لمنع دخول الغاز الكيماوي ولحمايتها من أن تنكسر عند الغارات الجوية أو دوي المدافع..
ولن نبالغ إذا قلنا إنها كانت أجواء حرب تعيشها البحرين التي لم يسبق لها أن مرت بهذه التجربة من قبل.

خليفة وأهل الكويت
وسارع الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء إلى احتضان الكويتيين الذين غادروا بلادهم وتواجدوا في البحرين، فأصدر أوامره العاجلة بتوفير السكن الملائم لهم وتسهيل التحاق أبنائهم بالمدارس والجامعات وأن يعالجوا مجانا في المستشفيات البحرينية وأن تحل أي مشاكل لهم على الفور، في صورة تعكس الترابط الخليجي في وقت الأزمات.
غير أنه كان من المثير ذلك الانقسام الذي ساد الشارع العربي بعد غزو الكويت،فإذا ظهرت فتوى دينية تدين الغزو وتفنده فإن فتوى أخرى من مكان آخر تظهر لتؤيد هذا الغزو وتدعمه.
وانتشر أتباع صدام الذين أغدق عليهم من قبل استعدادا لهذا اليوم يدافعون عنه ويبررون موقفه بينما كانت الغالبية في العالم العربي تؤمن بأنه قد ارتكب عملا من أعمال الغدر وأن الكويت ستكون نهايته.
ومع حالة التوتر التي سادت الشارع الخليجي كله كانت هناك مخاوف أخرى في البحرين من صواريخ صدام إذا ما حاول الهجوم على القاعدة الأميركية البحرية الموجودة في منطقة الجفير.

نصيحة من القذافي..
وكان الجميع على ثقة من أن الضربة ستكون قوية وأنه ينبغي على صدام لإنقاذ العراق أن يبادر بالانسحاب من الكويت ويقطع على أميركا الطريق لتنفيذ أهدافها بتدميره.
وحتى معمر القذافي أرسل بنصيحة إلى صدام حسين ينصحه فيها بالانسحاب ولم يستجب الأخير.
فقد ذهب الرائد الخويلدب الحميدي عضو مجلس قيادة الثورة الليبي إلى الرئيس صدام قائلا إنه يحمل رسالة من الأخ العقيد القذافي تتضمن قصة يجب أن يعرفها صدام.
والقصة تروي تجربة القذافي مع الأميركان عام 1986 عندما قصفوا ليبيا ودمروا معسكر العزيزية الذي اعتاد القذافي أن يقيم به وحولوه إلى حفرة عميقة فى الأرض. قال الخويلدي إن طائرات أف 111 الأميركية أتت عبر مالطة ولم ترصد الردارات الليبية التي تم تعطيلها عن طريق طائرة دون طيار دخلت المجال الجوي الليبي قبل القصف الأميركي، وقامت هذه الطائرات بقصف مخيم العزيزية من ارتفاع شاهق لا يصله مدى المدفعية، وأزالته من على الوجود، وكانوا يعتقدون أن القذافي داخله، ولحسن حظ القذافي فإنه كان قد غادر المخيم قبلها بدقائق. وقال الخويلدي الحميدي لصدام.. إن الأخ العقيد يريد من خلال هذه القصة أن ينصحكم بالابتعاد عن مواجهة الولايات المتحدة عسكريا، فهم يمتلكون تكنولوجيا جديدة للسلاح غير معروفة لدينا وسيتمكنون من تدمير أسلحتكم بكل سهولة.
ويبدو إن القذافي كان يقرأ الغيب فعلا، فهذا ما فعله الأميركان فيما بعد عندما تلذذوا بتقطيع أواصل صدام العسكرية تقطيعا دون أن تتاح له الفرصة للرد أو حتى التقاط الأنفاس..
ولكن صدام الذي لم يكن يستمع لأحد في هذه الأثناء اعتقد أن الولايات المتحدة تحشد جيوشها للضغط عليه؛ لأنها لن تكون قادرة على حرب الصحراء وتبعاتها.
واعتقد صدام أيضا أنه سيدخل في حرب ومواجهات برية مع القوات الأميركية تتيح له الفرصة لأن يسقط أكبر عدد منهم يجبرهم على الانسحاب، فقد كان على ثقة من أن الرأي العام الأميركي لن يقبل أن تتكرر مأساة فيتنام في عودة زهرة شبابه من أبنائه في أكياس بلاستيكية وقد أصبحوا مجرد أرقام في قائمة الخسائر البشرية.

جهود الكويت
وفي هذه الأثناء فإن الشرعية الكويتية التي كانت في المنفى بذلت جهودا جبارة من أجل إيجاد التحالف الدولي الذي كانت واشنطن تبحث عنه، ولعب صندوق الاستثمارات الكويتي في لندن دور مهندس الصفقات لإقناع دول العالم بالمشاركة ودعم الكويت في الأمم المتحدة وفي التحالف الدولي العسكري. ولولا وجود رصيد ضخم من المليارات يملكه الصندوق الكويتي للاستثمارات ما كان يمكن للكويت أن تعود بهذه السرعة وبهذه الطريقة.
فالأموال الهائلة التي أنفقت ساهمت في وجود الكويت على الساحة العالمية كعضو مهم في تكوين التحالف الدولي وفي إيصال الصوت الكويتي لأنحاء العالم.
وهذه الأموال هي التي أنفقت على المواطنين الكويتيين في الخارج، فأقام بعضهم في فنادق طيلة عام كامل حتى تم تحرير الكويت. فقد عاش المواطن الكويتب اللاجئ خارج بلاده بمستويات معيشية أفضل كثيرا من مواطني هذه البلاد أنفسهم.. وهي أوقات لن ينساها المواطن الكويتي أبدا، فهي التي أكدت له أن المال كثيرا ما يحقق المعجزات.
وعندما اكتملت استعدادات شوارتزكوف في الحدود السعودية مع الكويت فإن السؤال الذي كان مطروحا وقتها هل فعلا ستخوض أميركا حربا من أجل الكويت؟ وهل ستضحي بأبنائها من أجل شعب الكويت.. وما هو الثمن..؟