+A
A-

تطور فن الكاريكاتير اللاذع عبر التاريخ

الكاريكاتير هو فن، يعتمد على رسوم، تبالغ في تحريف الملامح الطبيعية، أو خصائص ومميزات شخص أو حيوان أو جسم ما. وغالباً ما يكون التحريف في الملامح الرئيسية للشخص، أو يتم الاستعاضة عن الملامح بأشكال الحيوانات، والطيور، أو عقد مقارنة بأفعال الحيوانات.
والكاريكاتير اسم مشتق من الكلمة الإيطالية “كاريكير” (Caricare)، التي تعني “يبالغ، أو يحمَّل ما لا يطيق” (Overload)، والتي كان موسيني (M0sini) أول من استخدمها، سنة 1646. وفي القرن السابع عشر، كان جيان لورينزو برنيني، وهو رسام كاركاتيري ماهر، أول من قدمها إلى المجتمع الفرنسي، حين ذهب إلى فرنسا، عام 1665.
والكاريكاتير فن قديم، كان معروفاً عند المصريين القدماء، والآشوريين، واليونانيين. فأقدم صور ومشاهد كاريكاتيرية، حفظها التاريخ، تلك التي حرص المصري القديم على تسجيلها، على قطع من الفخار والأحجار الصلبة، وتشمل رسوماً لحيوانات مختلفة، أُبرزت بشكل ساخر؛ اضطلع برسمها العاملون في تشييد مقابر وادي الملوك، بدير المدينة، في عصور الرعامسة، ويرجع تاريخها إلى عام 1250 قبل الميلاد. ولا تُعرف الغاية، التي توخاها الفنان المصري من هذه الرسومات؛ فلعلها كانت إشارة غير صريحة، إلى العلاقة غير المتوازنة، بين الحاكم والمحكوم، التي كانت سائدة في تلك الفترة، جسّدها النحاتون في أسلوب ساخر، خفي المعنى.
وجديرُ بالذكر، أن فن الكاريكاتير، كان شائعاً عند اليونانيين، الذين ذكروا أن مصوراً يونانياً، يدعى بوزون، صوّر بعض المشهورين من أهل زمانه، في شكل يدعو إلى السخرية، الأمر الذي أدى إلى عقابه غير مرة، من دون أن يرتدع. وذكر بلنيوس المؤرخ، أن بوبالوس وأتنيس، صنعا تمثالاً للشاعر الدميم ايبوناكس، وكان التمثال أشد دمامة، إلى درجة أنه كان يثير ضحك كل من كان ينظر إليه؛ فاغتاظ الشاعر منهما، وهجاهما بقصيدة لاذعة، لم يحتملاها فانتحرا. وازدهر فن الكاريكاتير في إيطاليا، فأبدع الفنانون الإيطاليون كثيراً من الأعمال الفنية. ومن أشهرهم تيتيانوس (1477 - 1576)، الذي عمد إلى مسخ بعض الصور القديمة المشهورة، بإعادة تصويرها بأشكال مضحكة.
رسامو الكاريكاتير فنانون مبدعون بامتياز كبير، ولا يتحدد إبداعهم بالخطوط والاشكال التي يبتكرونها، ولا بالالوان التي يستخدمونها في رسوماتهم المثيرة للدهشة والضحك غالبا، وإنما يتجاوز ذلك كله الى ما يرتبط بحساسيتهم البالغة ازاء الواقع، الذي يبقى مناخهم المفضل، في الحدس والسخرية والمغامرة معا. ولعلهم لهذا السبب استطاعوا الوصول الى اكبر عدد من قراء الصحف، بل ان هؤلاء القراء غالبا ما يشيرون الى رسوماتهم بإعجاب شديد، لا يماثله اي اعجاب آخر، حتى بأفضل الافتتاحيات والاعمدة الصحافية التي يكتبها صحافيون او كتاب بالغو الشهرة.
ثمة اذا طاقة كبيرة في هذا النوع من الفن التشكيلي. طاقة في التعبير، ومثلها لا تقل عنها في التوصيل. ان الصدمة المترتبة عن رؤية احدى رسومات الكاريكاتير الناجحة، لا تقل عن تلك التي تسببها مقالة جريئة، او قصيدة بالغة الجودة، وحتى فإنها لا تقل عما يتركه خطاب سياسي يلقيه قائد جماهيري بين مؤيديه. ان مثل هذا الحماس لفن الكاريكاتير، لا يأتي من موقف تعصبي يميل صاحبه للتصفيق والصفير كما هو شائع بين المجتمعات المتخلفة، وإنما يرتبط برؤية حجم الصدمة التي يتركها هذا الفن في قراء الصحف والباحثين في صفحاتها الأخيرة عادة عن آخر الرسومات. فهؤلاء انما يبحثون في الحقيقة عن المرايا التي يمكنهم ان يروا من خلالها واقعهم. انني اتذكر في هذا المجال، رسومات ناجي العلي، فنان الكاريكاتير الفلسطيني الذي مات، وبعد رحلة عظيمة مع هذا النوع من الفن، برصاصة غادرة. ان قصة الموت، تختصر لنا كمعجبين بفن هذا الرجل، حكاية التحدي التي مارسها في الواقع- واقع الحكام العرب- والسياسيين، والتنظيرات الداعية لسحق الانسان.
وناجي العلي، الذي ابتكر في فنه الكاريكاتيري شخصية حنظلة الشهيرة، كان اقرب الى الساحر منه الى الفنان العادي، وفي فنه تعويذة مبهمة، لكنها تأسر العقول بجدراة. في الحديث عن فن الكاريكاتير، حديث عن نوع من تعاويذ السحرة، التي تجتمع فيها الاضداد، كما هي الحال في الحياة: الاسود والابيض، الفرح والحزن، الغضب والهدوء، الطويل والقصير، النور والظلام.. الخ. بغير هذا الفهم لن يكون بمقدورنا التمتع بهذا الفن، الذي ينقل الحياة من هيئتها الساكنة الى وجهها الآخر: الدمعة والابتسامة معا. وبغيرها ايضا فإن فهمنا العميق سيكون عرضة للخلل، ذلك ان اساس عمل رسام الكاريكاتير يتمثل بالتعبير عما هو داخل الحياة، اي عما هو في اعماقها، وليس عما هو في سطحها واشكالها الخارجية. ومن هنا جاءت طاقته، التي هي طاقة الفنان الثوري المشاكس، الذي يحمل نظرة نقدية عميقة، تؤهله لرصد المشكلات بأنواعها.
لقد قال احد النقاد عن فن الكاريكاتير انه الفن الوحيد الذي لا يحتاج الى شرح، وانه مرصد هزلي للواقع ولكل المتغيرات والتناقضات الموجودة في العلاقات الاجتماعية في مجموعة من الافكار والرسوم. ويمكن ان نضيف فنقول: ليس الأساس في الكاريكاتير رسم الضحكة على شفاه القراء او المتفرجين فقط، وانما الهدف منه تبصيرنا بواقعنا، وكشف ما قد يغيب عن الاذهان.
وأما الخيط الاهم الذي ظل يربط حاضر فن الكاريكاتير بماضيه، فإنه يتمثل بنزوع الفنان الى الرمزية الشفافة، والتخفي وراء الاشكال والالوان التي يبتكرها بطريقة ساخرة. ومما يروى في هذا المجال عن تأثيرات هذا الفنان ورسالته، ان احد الرسامين في القرن العاشر الميلادي، قام برسم صورة الملك وحاشيته، فجعل رأس احد مستشاريه كرأس الحمار. بذلك فإن الرسام اراد الاشارة الى عدم فطنة هذا المستشار، وانخداع الملك منه. وعندما شاهد الملك الرسم، أصدر قرارا بإلقاء القبض على الرسام وسجنه. وحكايات الرسامين من هذا النوع كثيرة.