+A
A-

ملاك في العصور القديمة 1

حين دخلت مكتبها, بادرت إلى فتح جهاز الكمبيوتر لتجد رسالة وصلتها عبر النت, تخبرها أن عليها قيادة فريق عمل للإشراف على مشروع كبير لإنشاء توربينات هوائية وخلايا الطاقة الشمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية, ألقت نظرة خاطفة على جدول أعمالها الذي نظمته على جهازها المحمول (اللاب توب), كتبت عبارة (هذا الأسبوع محجوز), ثم أكملت (الإشراف على فريق العمل) في الوقت نفسه, كانت تتكلم مع المشرفة على قاعة الفندق الذي ستقدم فيه هذا اليوم محاضرة عن آفاق التكنولوجيا الحديثة في مجالات الطاقة البديلة عبر استخدام تكنولوجيا الأبراج الهوائية والخلايا الشمسية لتوليد الطاقة الكهربائية الصديقة للبيئة وكيفية تأمين ذلك من هذه التكنولوجيا.
بينما هي منشغلة بهذه التفاصيل, أخبرتها السكرتيرة أن لديها لقاء مع إحدى الصحف الكبرى.
كانت في الثامنة والعشرين من العمر, متخصصة بأكثر من فرع علمي / تقني, تعشق التكنولوجيا بجنون وتتعامل مع آخر وأحدث تقنيات التواصل لاستكمال التزاماتها الرسمية والشخصية, تنجز أعمالها دون تذمر أو تعب، وكأن الله قد وهبها قدرات مثالية, إضافة إلى أناقتها, الأمر الذي ينعكس على رقتها وجمالها الساحر.
بعد أن استكملت اللقاء الصحفي, هرعت إلى الفندق، حيث ينتظرها فريق العمل الذي يجب أن تقوده في مشروع بناء التوربينات الهوائية, حال وصولها الفندق توجهت إلى قاعة الاجتماع، حيث كان الفريق بانتظارها, ألقت التحية عليهم واتجهت نحو المنصة، وباشرت الحديث الذي أعدته، وهي في الطريق إليهم, المحاضرة استمرت ثلاث ساعات, لم تكن بحاجة إلى نص مكتوب ما جعل الكل ينبهر بها, علما أن فريق العمل كان من الرجال الذين لم يرق لهم بادئ الأمر أن يكونوا تحت قيادة امرأة, لكن, بعد سماعهم المحاضرة تغيرت نظرتهم كليا. في اليوم التالي توجه الفريق إلى المطار، حيث تنتظرهم الطائرة التي ستنقلهم إلى موقع عملهم المقرر, كانت مدينة بعيدة تختلف في عاداتها وتقاليدها, أخيرا وصلوا إلى وجهتهم ليجدوا لجنة استقبال في انتظارهم, رحب بهم أعضاء لجنة الاستقبال ونقلوهم إلى الفندق ليرتاحوا, على مائدة العشاء التي ضمت الفريق والمسؤولين عن المشروع دار الحديث عن تفاصيل هذا المشروع وسبل تنفيذه والنتائج المتوخاة منه, تم الاتفاق على نقلهم صباح اليوم التالي إلى موقع العمل، حيث خصصت لهم مساكن مؤقتة للاستراحة.
استيقظت مبكرة, ارتدت ملابسها، ونزلت إلى الصالة لتجد المجموعة بانتظارها, بادرتهم بالتحية وسألتهم فورا عن التجهيزات والتقنيات حتى اطمأنت على توفرها وبشكل جيد, بعد تناولهم وجبة الطعام استقلوا الحافلة الكبيرة التي توجهت بهم نحو الجبال البعيدة, موقع المشروع يقع على سفح جبل تحيط به غابات كثيفة جدا, في منحدر الجبل كان هناك نهر يجري نحو حافة الجبل ليصنع شلالا هادرا ينحدر إلى الأسفل ناشرا رذاذه الناعم في الفضاء.
عملت مع الفريق بشكل مكثف خلال ثلاثة أيام، حيث قامت بتعيين مواقع التوربينات وحساب المسافات البينية بين أعمدتها وعددها. أما في اليوم الرابع، فكان عليها تركهم يعملون وتعود مرة بالأسبوع للأشراف, خرجت من الصباح الباكر, كان الجميع نياما, تفقدت مواقع العمل حتى ابتعدت كثيرا دون أن تنتبه, فجأة, هبت رياح عاتية أثارت خوفها, حاولت العودة، لكن دون جدوى، إذ إن قوة الرياح كانت تطوح بها حتى شعرت أنها تطير, كلما حاولت الإمساك بشي يساعدها على التشبث، ففشلت, كان بقاؤها صامدة أمرا مستحيلا، ولم تستطع فعل أي شيء يخلصها من هذا المأزق الخطير، حيث إن هاتفها المحمول وقع من يدها, دفعتها الرياح العاصفة نحو منحدر الجبل, في نهاية المطاف لاحظت أن يديها كانتا مغمورتين بالوحل وكذلك ثيابها والرياح تهزها بقوة، ومن ثم شعرت أنها تسقط من منحدر الجبل العالي, الرياح خفت قليلا لأن الجبل قلل من حدتها, أحست أن هناك ثمة أمل, نظرت إلى النهر البعيد الذي صار يقترب منها أو هي تقترب منه في الحقيقة, حاولت أن تستجمع قواها وشجاعتها، وأخذت تردد مع نفسها أنها ماهرة بالسباحة، وستنجو بكل تأكيد, حاولت أن تكون مستعدة للسقوط في النهر، وهو ما حدث أخيرا: سقطت سقطة قوية جدا وغاصت في مياه النهر الهادرة, صارعت المياه برجليها ويديها، ظننا منها أنها سوف تستطيع أن تصل إلى الضفة وتتخلص من هذه الكارثة, لكن وجدت أن النهر يجرفها بشكل سريع جدا, لم يكن أمامها إلا التشبث بجذع شجرة كانت تطفو على سطح النهر, ظلت متشبثة بها، لكنها لم تستطيع إلى تصل إلى ضفة النهر رغم محاولاتها الكثيرة, أخيرا, جرفها الشلال هي وجذع الشجرة رغم استمرارها في المقاومة, بدأت تفقد قواها رويدا رويدا, عند حلول الليل شعرت أن نهايتها قد حانت وعليها الاستسلام لقدرها, بعد لحظات اصطدمت بشجرة كبيرة طافية على سطح الماء، فتشبث بها بكل قواها, لم تتذكر كيف أمسكت بها ونتيجة الإرهاق وشدة التعب، فقدت وعيها.
فتحت عينيها على صدى أصوات غريبة ولغة لم تستطع معرفتها رغم أنها تجيد عدة لغات, استغربت ما يحيط بها حتى شعرت أنها في حلم, رأت مجموعة من النساء والرجال يحيطون بها, كانوا يرتدون ملابس توحي بأنها من العصر الحجري، وجدت نفسها في كهف حتى ظنت أنها مزحة صنعها زملاؤها, وحين سألتهم (من أنتم) كانت الإجابة عبارة عن تصرفات وحركات غريبة جدا، حيث راحوا يقفزون من أماكنهم كالقردة, خافت كثيرا, لكنها شاهدتهم يحملون سلالا مملوءة بالفواكه وكأنهم يقدمونها كهدايا, نظرت إليهم مليا، رسمت على وجهها الشاحب وعينيها الكليلتين من شدة التعب الألم شبح ابتسامة مرة “كلما حاولت أن تعرف منهم شيئا عن وضعها وأين هي فشلت في الحصول على إجابة, تناولت بعض الفاكهة؛ كي ستعيد قواها “كانت تأمل أن تكون قريبة من المكان الذي سقطت منه, نظرت إلى ساعتها، فصدمها الواقع بقوة, ثلاثة أيام مضت منذ تعرضت للحادث, الأمر الذي أزعجها أكثر ركوعهم المتواصل لها كلما تحركت أو تحدثت معهم, فكرت مع نفسها لتفسير سلوكهم الغريب تجاهها (هل يعتقدون أني إلهة بسبب مظهري وملابسي وساعتي التي تصدر أصوات التنبيه في فترات متقطعة؟).
في اليوم التالي قررت أن تخرج في جولة استكشافية علها تجد شيئا يمكنها من العودة إلى زملائها, رافقها ثلاثة من الشباب الأقوياء وكأنهم فريق حراسة معد لحمايتها, حاولت أن تعرف منهم شيئا حول هذا المكان، لكنها فشلت بسبب حاجز اللغة.
ثلاثة أيام مرت على هذه الحال, انهمرت من عينيها الدموع رغم صلابتها وقوة إرادتها, أخذت تفكر بكل زملائها في فريق العمل وحال المشروع والتقنيات التي كانت في متناول يدها, وكيف هي الآن لا تعرف في أي مكان! من جهة أخرى, وبعد مضي اليوم السابع من اختفائها كان كل فريق العمل يبحث عنها لم يتركوا مكانا دون أن يبحثوا فيه, استخدموا القوارب للبحث في الأنهار استعانوا بطائرة هليكوبتر لتمشيط الغابات المحيطة, كل هذه الجهود ذهبت سدى الأمر الذي جعلهم يعلنون خبر وفاتها أخيرا, كان الخبر صدمة كبيرة لكل من يعرفها, أقيمت مراسم عزاء تليق بها, الجميع تلقى نبأ موتها بمرارة وتقبل الأمر، إلا والدتها، إذ كانت تردد أنها تشعر بها, كانت تقول بإصرار وعناد شديدين (سوف تعود, شيء ما يجعلني أشعر بوجودها حية؟).
يتبع
قصة: د.مهندسة أنوار صفار