+A
A-

حظر وقف تنفيذ العقوبات المالية بقانون “سوق العمل” لتحقيق “مزيد من الردع العام”

راشد الغائب:
رفضت المحكمة الدستورية طعنًا بمادة من قانون تنظيم سوق العمل يحظر وقف التنفيذ في العقوبات المالية، ولا يجيز النزول عن الحد الأدنى المُقرر للعقوبة قانونًا لأية أعذار أو ظروف مخففة.
ودفع المدّعي (فينو توماس كوشي) ووكيله المحامي محمد بوحسين بعدم دستورية المادة، وذلك لما قد يبديه المتهم من أعذار أو ظروف مخففة أو لما قد يراه القاضي من ظرف مخفف يدعو إلى الرأفة بالمتهم حيث أن النص الحالي بالقانون جرد القاضي من السلطة التي يقدر بها لكل جريمة عقوبتها التي تناسبها، بما يناقض موضوعية تطبيقها، ويعتبر تدخلاً من السلطة التشريعية في أعمال السلطة القضائية خِلافًا لأحكام المادة (104) من الدستور.
وذكر المحامي في دعواه للمحكمة أن “الحظر أكد نية المُشرع في جباية الأموال من دون مراعاة أعذار وظروف المتهم، وهو ما يعتبر اعتداءً على ملكيته الخاصة لهذه الأموال خِلافًا للحماية التي قررتها المادة (9/ج) من الدستور لهذه الملكية”.
أما المحكمة وفي حيثيات حكمها بالرفض، والتي حصلت “البلاد” على نسخة منها، فاعتبرت أن “المُشرع بهذا التقدير قد أجرى المفاضلة بين البدائل المختلفة لتفريد العقوبة مستهدفًا أنسبها لتحقيق الأغراض التي يتوخاها وهو تحقيق مزيد من الردع العام – منظورًا إليه من زاوية تشريعية – لكل من يعلم بمضمون التجريم والعقاب في الجرائم الواردة في القانون صونًا لمصالح العمالة الوطنية، فضلاً عن تحقيق الردع الخاص – منظورًا إليه من زاوية قضائية – وذلك من الملاءَمات التي تدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يمارسها المُشرع في مجال تنظيم الجرائم والعقوبات وفي حدود اختصاصاته الدستورية ووظيفته التشريعية”.
وأكدت المحكمة أنه “لما كان الجزاء الجنائي للجريمة في النص الطعين قائمًا على قاعدة التناسب والملاءَمة، ومبررًا من منظور اجتماعي، فلا يجوز للمحكمة الدستورية أن تحل تقديرها محل تقدير المُشرع في شأن تقريره أو تحديد مداه”.
ملخص القضية
أقامت النيابة العامة الدعوى الجنائية ضد المدعي (فينو توماس كوشي) ووكيله المحامي د. محمد رضا بوحسين بوصــــــف أنـــــه بتاريخ 31 مارس 2003 بمملكة البحرين استخدم عمالاً أجانب بـــــــدون تصريح وطلبت معاقبته بالمادتين (23/أ، ب، 36/أ، ب) من القانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل، فقضت المحكمة الصغرى الجنائية بتغريمه ألف دينار، ولم يرتض المدعي هذا الحكم فطعن عليه بالاستئناف، وأثناء نظر الاستئناف قدم المدعي بجلسة 27 سبتمبر 2011 مذكرة دفع فيها بعدم دستورية المادة (36) من القانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل، والمحكمة قررت تأجيل الدعوى لجلسة 1 نوفمبر 2011 ليقدم المدعي ما يُفيد إقامة دعواه الدستورية، فأقام المدعي الدعوى بتاريخ 18 أكتوبر 2011.
النص المطعون في دستوريته
المادة (36) من القانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل تنص على أنه:
أ-مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد، ينص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تجاوز سنة واحدة وبالغرامة التي لا تقل عن ألف دينار ولا تجاوز ألفي دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من يخالف أحكام الفقرتين (ب)، (ج) من المادة (23) والمادتين (28) و(30) من هذا القانون.
ب- يعاقب بالغرامة التي لا تجاوز مائة دينار، كل أجنبي يخالف حكم الفقرة (أ) من المادة (23) من هذا القانون.
ج- مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، يُعاقب بالغرامة التي لا تقل عن خمسمائة دينار ولا تجاوز ألفي دينار، كل صاحب عمل، أو وكالة توريد العمال أو مكتب التوظيف أو ممثله أو مسئول عن إدارته الفعلية يخالف حكم الفقرة (ب) من المادة (34) من هذا القانون.
د- لا يجوز وقف التنفيذ في العقوبات المالية، كما لا يجوز النزول عن الحد الأدنى المُقرر للعقوبة قانونًا، لأية أعذار أو ظروف مخففة.
وتنص الفقرة (ب) من المادة (23) من القانون رقم (19) لسنة 2006 على أنه : (( يحظر على صاحب العمل استخدام عامل أجنبي دون صدور تصريح عمل بشأنه طبقًا لأحكام هذا القانون، كما يحظر عليه استخدام هذا العامل بالمخالفة لأحكام هذا القانون أو شروط التصريح )).

مبررات الطعن
طعن المدعي على نص الفقرة (د) أنه بحظره وقف تنفيذ العقوبة المالية وبمنعه النزول عن الحد الأدنى المُقرر للعقوبة قانونًا لما قد يبديه من أعذار أو ظروف مخففة أو لما قد يراه القاضي من ظرف مخفف يدعو إلى الرأفة بالمتهم يكون قد جرد القاضي من السلطة التي يقدر بها لكل جريمة عقوبتها التي تناسبها، بما يناقض موضوعية تطبيقها، ويعتبر تدخلاً من السلطة التشريعية في أعمال السلطة القضائية خِلافًا لأحكام المادة (104) من الدستور، كما أن النص بهذا الحظر قد أكد نية المُشرع في جباية الأموال من دون مراعاة أعذار وظروف المتهم، وهو ما يعتبر اعتداءً على ملكيته الخاصة لهذه الأموال خِلافًا للحماية التي قررتها المادة (9/ج) من الدستور لهذه الملكية.
تفريد العقوبة
قالت المحكمة: إن السلطة التقديرية التي يباشرها المُشرع في مجال تفريد العقوبة، تتحقق بوسائل متعددة من بينها التدرج بالعقوبة بين حديها الأعلى والأدنى، ومنها وقف تنفيذ العقوبة، ومنها الخروج على هذين الحدين صعودًا ونزولاً، فيرتفع بها عن حدها الأعلى في حالة الظروف المُشددة، وينزل بها عن حدها الأدنى في حالة الظروف المخففة، ويخضع تقدير ذلك كله للسلطة التقديرية للمُشرع في مجال تنظيم شرعية الجرائم والعقوبات، ولما كان الدستور قد أكد مبدأ شخصية العقوبة بنص الفقرة (ب) من المادة (20) منه، فإنه يعني به – في أحد مضامينه – تقييد المُشرع بضرورة تنظيم مبدأ التفريد التشريعي للعقوبات، وذلك لكي تتناسب العقوبة مع مدى مسئولية المتهم عن الجريمة شخصيًّا ودوره في الجرم عند إنزال العقوبة عليه من القاضي، ومن ثم فلا مندوحة للمُشرع، من الناحية الدستورية، عن إعمال التفريد للعقوبة في مجال تنظيم الجرائم والعقوبات، وإلا كان مخالفًا لمبدأ شخصية العقوبة. إلا أن الدستور وقد ألزم المُشرع بتفريد العقوبة، لم يحدد له حدًّا معينًا، عند ممارسته لسلطته في التفريد، ولم يضع عليه قيدًا في تحديد مداه ومجالاته وأسبابه، وبالتالي ليس ثمة قيد دستوري خاص على مباشرة المُشرع لسلطته تلك، إلا الضوابط التي يفرضها الدستور في إطار تنظيم شرعية الجرائم والعقوبات، القائم على مبدأي الضرورة الاجتماعية والتناسب في العقوبة، ومن المُقرر أن القيمة الدستورية لتفريد العقوبة مستمدة من أساس التجريم والعقاب وهو الضرورة والتناسب.
وواصلت: كلما استقام الجزاء الجنائي – وتقديره عملية موضوعية - على قواعد يكون بها ملائمًا ومبررًا من منظور اجتماعي، فإن إحلال جهة الرقابة على دستورية القوانين لخيارتها محل المُشرع في شأن تفريد جزاء أو تحديد مداه، لا يكون جائزًا دستوريًّا، بما مؤداه أن دور الرقابة على دستورية القوانين التي خولها الدستور للمحكمة الدستورية يقف، في هذه الحالة، عند مقابلة النص المطعون فيه بنصوص الدستور الشكلية والموضوعية، لبيان أوجه مخالفتها أو اتفاقها معها، ولا يمتد إلى بحث ملاءَمة إصدار التشريع أو الباعث فيه.
التفريد
وقالت المحكمة في حيثيات الحكم: “إذا حرم القانون القاضي من سلطته في وقف التنفيذ في الجنح الواردة في نص المادة (36) أو منعه من النزول عن الحد الأدنى للعقوبة المُقررة قانونًا، فإن ذلك لا يعتبر من مكونات التفريد التشريعي الذي يمارس القاضي سلطته في التفريد في حدوده وداخل إطاره”.
ولفتت أن “ النص الطعين قد أكد سلطة القاضي في تفريد العقوبة وتقديرها في الحدود المُقررة قانونًا – في شأن الجنح الواردة في القانون فإنه يضحى بمنأى عن شبهة المساس بجوهر الوظيفة القضائية واستقلالها المنصوص عليه في المادة (104) من الدستور أو التدخل في سير العدالة، ولا يكون قد أخل بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في المادة (32/أ) من الدستور”.
الملكية الفردية
وأكدت المحكمة أنه “من المُقرر أن الحماية التي أظل بها الدستور الملكية الخاصة لضمان صونها من العدوان وفقًا لنص الفقرتين (أ،ج) من المادة (9) منه لا تنحصر في الملكية الفردية، بل تمتد هذه الحماية إلى الأموال جميعها من دون تمييز باعتبار أن المال هو الحق ذو القيمة المالية سواء كان هذا الحق شخصيًّا أم عينيًّا أم كان من حقوق الملكية الأدبية أو الفنية أو الصناعية، وإذ كان ذلك، وكانت حصيلة الغرامات المحكوم بها وفقًا للنص المطعون فيه، تؤول جميعها بقوة القانون إلى خزانة الدولة - فتذوب في إيراداتها الأخرى - باعتبارها جزاءً للجريمة التي اقترفها المحكوم عليه وُضِعت حماية لمصالح المجتمع ومصالح المحكوم عليه، ولم يكن هدفها إثراءً للدولة على حساب المُذنب، فلا تمتد إليها الحماية القانونية التي قررها الدستور لحق الملكية، ومن ثم فإن النص الطعين لا ينحل – والحالة هذه – عدوانًا على حق الملكية أو جباية لأموال المدعي”.